الكاتب والشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة في عمله "قلب العقرب: سيرة شعر" بشكل انتقائي، بانتخاب ما يريد أن يعرفه القارئ عن مشوار معاناته مع الكتابة، وطرح أسئلة الكتابة، ليتعرف القارئ إلى المشروع الإبداعي لكاتب ما. منذ العتبة الأولى لمقاربة الكتاب، وأقصد العنوان، يصدر الكاتب لنا أنها سيرة شعر، وأنه سوف يركز في سيرته الذاتية على مشواره الشعري. واللافت للنظر أن اسم الكاتب يتبع بكلمة “شعريار”، فهل يستدعي هذا الاسم الصورة الذهنية للعلاقة التاريخية بين شهرزاد وشهريار؟ إن الصورة الذهنية التي يطرحها اسم شهرزاد في الذاكرة الجمعية العربية هي أنها حاولت أن تفلت من الموت هي وبنات جنسها بالحكي، بالفن، بسرد حكايات من تاريخ الأمم عن شهريار الملك، حتى تتمكن من أن تفلت كل ليلة من موت محتم. لكن ما الذي تصوره شاعر أطلق على نفسه "شعريار" من التناص مع شخصية شهريار الملك؟ ما الذي يفيد من أن يأتي بمقلوب الدلالة؟ فشهريار في الوعي الجمعي كان الملك ذا السلطة، القادر على إنهاء حياة المئات والآلاف من النساء بسيف مسرور، فهل "شعريار" العصر الحديث سيتبادل المواقع مع شهرزاد، ليقوم نيابة عنها بالحكي؟ قلب العقرب يصدّر الشاعر للكتاب، الصادر عن بيت الشعر بفلسطين، برؤيته للشعر، بأن الشعر لم يكن خيارا له “لم أعِد أحدا بأنني سأكون شاعرا، لقد ولدت هكذا.. شعريار”. ولا يكتفي بتصديره، بل يستعير رؤية الشاعر الياباني ماتسو باشّو، الذي ولد في منتصف القرن السابع عشر، وتوفي في نهايته، واُشتهر بقصائد الهايكو “في هذا الجسد البائس ذي العظام المئة، والفتحات التسع، ثمَّ شيء اسمه الروح، ستار شفيف يتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال أرق من النسيم، هي الروح بحالها هذه، هي التي ساقتني إلى الشعر، فما كان في أول الأمر تسلية أزجي بها الوقت، صار، من بعده، شغل حياتي الشاغل". حين نواصل القراءة سنجد لهذين التصديرين تجليات وتمثلات في الفضاء النصي لـ"قلب العقرب". لكن ما علاقة سيرة الشعر بقلب العقرب؟ وهل للعقرب قلب؟ الشاعر لم يكتف بسرد مسيرته الشعرية عبر مراحل عمره المختلفة، بل حاول أن يكتب لنا فلسفته الجمالية ورؤيته الثقافية إن هذا التساؤل عن أسباب اختيار “العقرب” ليصبح مضافا إليه لمفردة “القلب”، وما تستدعيه في الوعي من دلالات، يطرحه الشاعر الفلسطيني علي الخليلي، الذي حاول أن يبحث عن سبب اختيار “العقرب”، وقد هداه البحث إلى أن “الشعر الذي تتأسس عليه السيرة، شعر غير مسبوق في قوته البلاغية، وتفرده الحسي، وتجلياته الإبداعية، ما يجعل منه قلبا لكل هذه المأسسة، فلماذا في المحصلة لا يكون قلبا للعقرب؟ لا يريد أن ينكسر بعنونة أو تسمية ضعيفة وهشة، ذات صلة بالفراشة أو الوردة أو قطر الندى، أو ما شابه ذلك، على الرغم من القيم الفنية والإنسانية العالية للفراشة أو الوردة أو قطر الندى، طالما قامت إرادته الذاتية المنتجة للشعر على التحدي الإنساني والحضاري، لا بالعنف، بل بالحب العميق، وبكل عناصر التفوق الوجودي". إنها سيرة شعرية، بل إنه الشعر ولا شيء سواه، الشعر الذي يمثل اتجاهه، وقيمه، وعالمه، وطبائعه الجمالية والفنية، وقد صار السرد لهذه القيم حالة من التوق الوجداني والمعراج الصوفي، عبر لغة شعرية لا تقل في صخبها وزخمها الجمالي والفني عن شعره. ولم يكتف الشاعر بسرد مسيرته الشعرية عبر مراحل عمره المختلفة، بل حاول أن يكتب لنا فلسفته الجمالية ورؤيته الثقافية، ليس لقضايا الشعر فقط، بل لقضية الجمالية في عمومها، كاشفا عن علاقته بفلاسفة ومفكرين وكتاب وشعراء، وليس شرطا أن تكون العلاقة إنسانية في مسيرتها، بل أحيانا كانت العلاقة عبر المعرفة الجمالية، والمثاقفة. ويرى عبدالسلام أن الشاعر "يحاور التراث الثقافي العربي والعالمي، ويثري من خلال فاعليته الإنتاجية الخفية هويته الجمالية، وواقعه، فصورة لاورا، محبوبة الشاعر الإيطالي بتراركا، وما صاحبها من تأجيل، وغياب، وقداسة فنية في وعيه، تحولت عند الريشة إلى معادل فني لمدلول القصيدة التي تهيمن على الوعي من دون أن يقبض عليها أبدا، كما تجلت في صورة محبوبته فاتن، فمنحها حضورا استعاريا متعاليا يشبه ابتسامة الشاعرة فدوى طوقان، التي تشبه لوحة الموناليزا لدافنشي”. سرد علاقات الشاعر وذكرياته في المشهد الثقافي العربي إنها سيرة يعتبرها الريشة ومضات مما أمكن للذاكرة أن تستحضره "آناء إضاءتها/ كتابتها، لذا، فهي لا تغني، مطلقا، عن قراءة أعمالي الشعرية، وكتاباتي الأخرى، والحوارات التي أجريت معي، والقراءات، والمقاربات، والدراسات النقدية، وأيّ شيء، وكل شيء، أُنجِز عن تجربتي الشعرية". وثيقة إبداعية يقسم الكاتب سيرته إلى ثلاثة أقسام كبرى، تندرج تحتها الفصول، فيأتي الجزء الأول “الشغف والمثابرة، فالانقطاع”، يبدأه بـ”مدخل معذب قليلا/ كثيرا”. وفي الجزء الثاني “كنت أريدني شاعرا فقط، ولكن..”، يتحدث الشاعر عن الانتفاضة وعودته إلى كتابة الشعر، بعد انقطاع دام طويلا، يبدأه بالحديث عن الخروج من بيروت، ويسرد فيه سيرة نضال الشعب الفلسطيني، وليس سيرة الشعر فقط. وتحت عنوان “ماء القاهرة.. وجه النيل”، يتحدث الريشة عن علاقة القاهرة التاريخية بفلسطين، كما يتحدث عن ذكرياته عن تاريخ النضال المصري العربي المشترك “لم أَستطع وأد دمعتيّ عندما شاهدت رمل سيناء الأَخضر. نعم.. الأخضر، فلم تزل دماء الأبطال ناضرة وإلى الأبد. ودارت في رأسي طيلة المساحة الرملية الشاسعة، كلمات أُغنية أكتوبرية طالما سمعتها وغيرها عند العبور في العام (1973)، وفي ذكراه السنوية المتجددة "وأنا على الربابة بغني غنوة الحريّة"، الحرية التي شعرت بها لأول مرة فوق تراب تحرر، لأن الاحتلال الصهيوني استبد ببقية التراب الفلسطيني في العام 1967”. في الجزء الثالث بعنوان “الشعر وما أدراك ما بيته”، يبدأه بقصيدة له، ثم يتحدث عن علاقته بـ”بيت الشعر”، ومتى بدأ العمل به، وكيف استمر العمل به حوالي خمس عشرة سنة، في عمل إداري جاف، لكنه لم يتعارض مع كونه شاعرا يكتب الشعر، حيث أنجز في تلك الفترة ثماني مجموعات شعرية، وكذلك علاقاته برموز الحركة الثقافية الفلسطينية التي نشأت نتيجة لوجوده في “بيت الشعر”. إن الكتاب مليء بتفاصيل تؤرخ للحركة الشعرية الفلسطينية بخاصة والعربية بعامة، من خلال سرد علاقات الشاعر وذكرياته في المشهد الثقافي العربي. إنها وثيقة إبداعية زاخرة وزاخمة بالمعرفة والمعلوماتية. :: اقرأ أيضاً جائزة نوبل للأدب 2016: من يحفر اسمه في قائمة الكبار كتاب يطرح قضية الاختيار المنهجي في قراءة النص الحديث المسلسلات الممصرة تسحب البساط من دراما السير الذاتية غياب الأعمال الأدبية عن الدراما الجزائرية يزيد من قوقعتها
مشاركة :