رواية "ورقة أخيرة" هي الرواية الأولى التي أقرأها للمبدع وائل وجدي، ولم يسبق لي الاحتكاك بإبداعه إلا في مجموعته "شدو البراءة" وهي قصص قصيرة جداً، وقد جذبني العمل ولست مبالغاً منذ السطر الأول فاندفعت في القراءة ولم أترك لنفسي إلا قرار واحد هو إنهاء الرواية في جلسة واحدة حتى لو اقتطعت وقتها من ساعات النوم، رغم أن الرواية ليست من أعمال الإثارة والتشويق والمغامرة، بل عمل أدبي اجتماعي يمس العديد من فضاءات الحياة الإنسانية المصرية، وأستطيع أن أطلق عليه - من ناحيتي على الأقل – إبداع الصعب الممكن. وقد أثارت انتباهي خلال قراءة العمل عدة ملاحظات آثرت أن أكتبها لنفسي لا لشخص آخر ثم تساءلت أليس المبدع وقد اجتهد في الخَلق والبناء وأضاع راضياً حقبة - طالت أو قصرت - من عمره في تركيب الفكرة وتطويرها وتصاعدها ثم كتابتها ليسعدنا بالوقت الجميل الذي نقضيه في قراءتها ويفتح في وعينا وإدراكنا سماوات جديدة لرؤى أخرى جديدة، أليس المبدع بعد كل ذلك أحق بملاحظات مني ربما تضيء له لمحة ولو ضعيفة في دربه نحو الكمال الفني، لذلك قررت أن أؤدي الأمانة - وهي ليست شيئا بذي بال - إلى صاحبها. وكانت اللغة أول ما أثار حبي لهذا العمل، فاللغة في العمل الروائي يدٌ واحدة ووحيدة لا تستطيع أن تصفق لكنها تستطيع أن تمسك القلم لتكتب فتثير الانتباه خاصةً لو كانت لغة قريبة مألوفة كأنها مقتطعة من جسد الحياة. لغة تدب على أرض الواقع بحيوية الخَلْق وقوة الإبداع، وتلمس بحساسية سحابات الشاعرية لأنها مفعمة بروح الخيال. اللغة البسيطة الأليفة عندما تتناغم في جُمل قصيرة متتابعة لتكوّن فقرات متوسطة أو قصيرة تدفع بالقارئ إلى اللُّهاث وهو مسترخٍ على كرسيه، وتوحي له بتسارع الأحداث وتصاعدها المستمر نحو ذروة فأخرى رغم أن فكرة العمل تبدو – أقول تبدو – بسيطة، والأحداث تتداعى بانسيابية حتى تكاد لا تلحظ لأننا نعايش أبطال العمل ونتفاعل من خلال اللاوعي مع أحداثه، وتلك اليد الأخرى التي لا تحتاج إلى التصفيق ولا الصوت المفتعل لجذب الانتباه. وتأخذنا تلك اللغة البسيطة الواعية إلى الاستخدام الذكي للفعل المضارع ليطرح دائماً في ذهن القارئ فكرة الزمن الآني والوقت الحالي واللحظة الكائنة كأن الرواية بأحداثها وأبطالها تجري أمام أعيننا ونحن جالسون في أماكننا، وهو تكنيك – بقصد أو دون قصد – يعبر عن قدرة المبدع على إدخال القارئ كشخصية من شخصيات العمل تشاهد ولا تتدخل، تجري مع الشخصيات هنا وهناك ولا تلهث، تتفاعل مع مشاعرهم ولا تستطيع أن تربت على أكتافهم أو تأخذهم بين أحضانها. كما أن الفعل المضارع يوحي دائماَ بسرعة سريان الزمن، ويعطي القارئ دائماً دافعاَ غير منظور أو محسوس للقفز إلى اللحظة الثانية والجملة التالية والفقرة اللاحقة. إن البساطة - في هذا العمل – متعة أخرى من المتع. بساطة الحدث. بساطة الحوار، حتى كأن الأحداث تتدفق بنفسها دون تدخلٍ ما، وأن العمل يخلق تصاعده الدرامي. كما أن الوصول بحدث إلي نهايته وترك حدثٍ آخر بنهاية مفتوحة ذات يقين معروف سلفاً ولكنه متروك لانطباع القارئ ونهاية حدث ثالث مفتوح على احتمالات متعددة. كل هذا يصب في نهر الانطباع الموحي بالأمل والثقة، ويعطي قيمة لحق الإنسان في انتظار الغد لأنه بالتأكيد سيلد جنيناَ أقل تشوّهاً من اليوم. أما الرمزية غير المفتعلة أو المقعرة كموجة في نهر ونفَسٍ في صدر فهي من أشفّ ما في العمل، تلك الرمزية التي لا يمكن أن نصفها بالبساطة فقط بل العمق الذي يبذل مبدعها الكثير من الجهد لتبدو هكذا دون أن تظهر على جبينه – العمل – نقطة عرق واحدة، وهي ليست رمزية مختبئة في غابات الغموض، بل رمزية واعية بفكرتها وغايتها. مفتوحة الأبواب والنوافذ لأي عين وكل نظرة، ورغم ذلك فإن الرمزية مجرد أداة واحدة من مجموعة أدوات ارْتكز عليها العمل وقام البناء على أكتافها ليمشي مرفوع الرأس. وقبل النهاية، تقتضي الأمانة والمحبة طرح تساؤل أو اثنين، فعدم التزام بطليْ العمل – خيري وسلمى – بدراستهم الجامعية يعطي انطباعاً بالسلب وعدم النضج الكافي لتحمل المسئولية – وربما كان ذلك مقصوداً لذاته – ونحن يمكن أن نجد عذراً لخيري، فما عذر سلمى؟ كما أن البطل الرومانسي الحالم الشاعري غير المتكيف مع واقعه .. والذي يترك مصيره يحمله حيثما يريد، وينساق مع القدر أينما يتجه. هذا البطل، لا يتفق مع عمل تكاد كل كلمة فيه. وكل وصف جغرافي دقيق. وكل تفصيلة من تفصيلات الحياة اليومية تنطق بالواقعية، الواقعية الملموسة باليدين. وعذراً الموطوءة بالقدمين. كما أن كلمة رزاز المطر (رذاذ المطر) في صفحة () سطر () كادت أن تفقأ عيني .. وهو خطأ مطبعي يُغتفر في أي عمل إلا هذا العمل الجميل. ويبقى أن أشير إلى أنني تخيّلت في الرواية أنفاساَ من عطر الكاتب الراحل علاء الديب . وأنا شخصياً أمد يدي وبقوة لتشد على يد وائل، وأدعوه للمزيد من الإبداع .. والمثابرة في الخَلق. وكلي ثقة أن غده الأدبي سيكون أجمل وأكمل من اليوم بإذن الله.
مشاركة :