ودّع المسرح الحديث وما بعد الحديث أمس، واحداً من أبرز رواده الإيطالي داريو فو الحائز جائزة نوبل للآداب العام 1997، والذي قدم العام 1972 عرضاً مسرحياً عن فلسطين. يتميز الفنان الذي أسدل الستار على حياته في التسعين من عمره، بأنه صاحب تاريخ كفاح سياسي واجتماعي وفكري كبير، وقابل خلال مشواره كثيراً من عناصر الاضطهاد، خصوصاً في رحلته الى الولايات المتحدة، وذلك بسبب انه كان يعتنق المذهب الماركسي، على رغم سقوط المعسكر الاشتراكي. فهو إنسان يتسم بالإنسانية بعيداً من أي تعصب ديني أو فكري أو أيديولوجي أو جنسي، هذا التوجه من رجل مسرح في عصر اهتزت فيه المثُل واهتزت القيم... وأصر داريو فو على رغم الصعوبات وما مر به من ظروف فقر وحاجة، على التزام القضية الإنسانية. وأضافت مسرحياته إلى تاريخ المسرح إطاراً شكلياً فكرياً جديداً، خصوصاً أن مسرحه لا يعتمد على الحدوتة أو القصة، وانما يحاول تقديم معادل مسرحي للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يحكم العالم، وخصوصاً إيطاليا وأوروبا، فضلاً عن أن له مشاركات كثيرة في المعارك الوطنية خارج إيطاليا. إثر انتخاب أول حكومة إيطالية هيمنت عليها عناصر اليسار والوسط العام 1956، اختار التلفزيون الحكومي داريو فو مخرجاً لبرنامجه الموسيقي الأسبوعي «من شاهد ذلك؟»، وطلب اليه لاحقاً كتابة وتمثيل اسكتشات وأغان في أهم برنامج للمنوعات في تلفزيون إيطاليا. وأفاد فو من شعبية البرنامج ليوغل في انتقاداته. وتلبدت سماء العلاقات بينه والسلطات إثر انتقاده سلسلة من الفضائح. وكان أشد تلك الانتقادات لسعاً مشهد يظهر فيه عامل في مصنع للحوم تزوره خالته، لكنها تتعثر فتقع في إحدى آلات تقطيع اللحوم فتتحول أوصالاً ضمتها 150 علبة لحم مُصنّع. وتقدم عدد من المصانع المعنية بشكاوى الى إدارة التلفزيون الإيطالي الذي فرض قيوداً على الحرية التي كان فو يتمتع بها. وعندما أمر الرقيب الداخلي بحذف بعض مشاهد من «اسكتش» يتناول فيه فو بالنقد ظاهرة إضرابات عمال المصانع، قاطع الكاتب وزوجته البرنامج التلفزيوني. ونشب خلاف حاد بين الطرفين وصل الى القضاء، ونجح مسؤولو التلفزيون في الحصول على حكم يمنع فو وزوجته من الظهور على الشاشة الصغيرة نحو 14 عاماً. تحت وطأة التجربة ومرارتها، قرر فو العودة العام 1963 الى المسرح، لكنه سرعان ما اصطدم بمنظّري اليمين واليسار. ومن منتصف ستينات القرن الماضي، حتى نهايتها. قدم أعمالاً مهمة أبرزها «الوصية السابقة: يجب ألا تسرق أقل من ذلك» وتناول فيها المضاربين في أسواق الإنشاءات والبناء. ومسرحية «دائماً اللوم على الشيطان» وهي كوميديا تسخر من فساد رجال الدين في العصور الوسطى. وقدم كذلك «الفتاة الكبرى» التي سخر فيها من الإمبريالية الأميركية. شعر فو وزوجته بالضجر من وضعهما بعدما رأيا أنهما أضحيا أداة لتسلية الطبقة البورجوازية. وفي 1968 تركا المسرح العادي ليعنيا كما قالا «بخدمة الطبقة العاملة»، وكوّنا بفضل ما اجتمع من أرباح أعمالهما المسرحية السابقة تعاونية مسرحية سمياها «المشهد الجديد»، وقدما أول عمل مسرحي تحت هذه الراية في 1968 يشرِّح أساليب الحياة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية. ولعل أبرز الأعمال المسرحية «السر الكوميدي» (MISTERO BUFFO) التي اقتبس فو عنوانها من مسرحية ذات عنوان مماثل للشاعر والمسرحي السوفياتي فلاديمير مياكوفسكي. ومنذ 1969 قدم فو أكثر من الف عرض من المسرحية داخل إيطاليا وخارجها، كان آخرها في أحد مسارح نيويورك العام 1986. وسجلها التلفزيون الإيطالي من المسرح وبثها في 1977 ضمن برنامج مدته 20 ساعة تتناول أعماله. وما إن انتهى بثها حتى أصدر الفاتيكان بياناً وصفها فيه بأنها «أكثر عمل مسرحي تلفزيوني فيه كفر وإلحاد». وفي مطلع سبعينات القرن العشرين، قدم فو مسرحية تناول فيها تاريخ العلاقات العمالية في بلاده خلال الفترة 1911 - 1922. وعدّل «موت فوضوي عرضاً» لتظهر تحت عنوان «من الطارق؟ إنها الشرطة». ثم قدم «لا يمكننا أن لا ندفع... لن ندفع» التي تتناول إضرابات المستهلكين في الأحياء البروليتارية في مدن الجنوب الإيطالي. ومع أن داريو فو بقي يمثل بانتظام في الجولات التي كان يقوم بها حتى نهاية السبعينات، إلا أنه لم ينتج عملاً مسرحياً جديداً باستثناء مسرحيتين ألفهما بالتعاون مع زوجته، وهما: «لنتحدث عن النساء» و «البيت... السرير والكنيسة». ولا ننسى أنه ممثل جيد أيضاً، يرتجل بسهولة ويقدم اسكتشات عن مواضيع وأحداث راهنة تجعل المتفرج يرى طرق الإبداع وهي تجري أمام عينه، اذ يتحول الموضوع السياسي الى قطعة مسرحية خالصة. ويعزو الناقد توني ميتشيل انقطاع فو عن الإنتاج الى الاتهامات التي وجهت اليه والى زوجته بمساندة الإرهاب، خصوصاً بعدما ساهمت فرانكا فو في منظمة طوعية أنشئت لمساعدة المعتقلين والسجناء. ولكن، لم توجه الى أي منهما تهمة جنائية بهذا الخصوص. وظلت وزارة الخارجية الأميركية ترفض وقتاً طويلاً منح فو وزوجته تأشيرة دخول بدعوى أن المنع تحتمه «أسباب أيديولوجية». ولم تتراجع الوزارة عن موقفها حتى العام 1984 إثر ضغوط شديدة مارستها نقابة المحامين في نيويورك ورابطة كتاب الدراما الأميركية والاتحاد الأميركي للحريات المدنية. واستدرك النقاد أن فو يعارض حقاً أي شكل من أشكال العنف في العمل السياسي. توصلوا الى ذلك بعدما قدم فو مسرحيته الشهيرة «أبواق السيارات» العام 1981 في ميلانو. وفي غضون أشهر قدمت المسرحية مترجمة في نحو 15 دولة منها الولايات المتحدة. وأمضى فو معظم الثمانينات في جولات داخل إيطاليا وأوروبا ليقدم «ميستيرو فو» التي يطلق عليها أحياناً اسم «اللغز الغنائي»، ومسرحيته الشهيرة أيضاً «قصة النمر». وكان فو من بين أوائل الفنانين الأوروبيين الذين سارعوا الى تأييد القضية الفلسطينية، إذ قدم عرضاً خاصاً عن الكفاح الفلسطيني. يقول: «نجاح هذا النوع من المسرح يرجع الى أننا نقدم للناس المواضيع التي يحبون مناقشتها». يذكر أن رئيس الوزراء ماتيو رينزي نعى الراحل قائلاً: «خسرت إيطاليا بوفاة داريو فو أحد أبرز أعلام المسرح والثقافة والحياة المدنية في بلادنا».
مشاركة :