لو تصورنا أن التاريخ يتشكل في محيط شفهي، لكان من المؤكد، أن ما ضاع منه ودخل في محيط النسيان، أكثر بكثير مما بقي منه. العربحميد سعيد [نُشرفي2016/10/15، العدد: 10425، ص(16)] في مطلع هذا القرن، جرت احتفالات عالمية، رافقتها نشاطات علمية، بمبادرة من منظمة اليونسكو، وقد شهدتها عواصم ومدن في أصقاع شتى من عالمنا، بمناسبة حلول الألف الرابع لاختراع الكتابة، أيامها شاركت في ندوة أقيمت في بيت الحكمة ببغداد، وقلت في ورقة قدمتها في الندوة “إن الكتابة هي أعظم اختراع على امتداد التاريخ الإنساني وأكثرها تأثيرا في تطور الحياة ومسارات حضاراتها، ولو لم يخترع الإنسان الكتابة، لكان العالم غير الذي كان، في ماضيه وحاضره، وغير الذي سيكون في المستقبل أيضا”. قال عالم الآثار صموئيل كريمر “إن السومريين، هم أول من اخترع الكتابة في تاريخ البشرية، وبها صاغوا الشرائع المكتوبة”. أما الباحث فراس السواح فقد رأى أن الكهنة المتفرغين، بفعل الرفاه الاقتصادي في مجتمع المدن الجديد، قد تفرغوا للنشاط الديني، وكانوا أول من استعمل الكتابة وحفظ أسرارها المقدسة. لقد كانت الكتابة من قبيل المقدس، إذ نسبت بداياتها إلى عدد من الأنبياء، وفي القرآن الكريم، في سورة “القلم” كان القسم “ن” إشارة إلى قدسية الأبجدية، وكذلك بـ”القلم” أداة الكتابة، و”ما يسطرون” حيث يكون القسم بالكتابة، واستمر هذا الموقف، “قدسية الكتابة”، عند المتصوفة، فالكتابة عندهم كتابتان؛ الأولى مقدسة تنسب إلى الخالق، والثانية تنسب إلى المخلوق، ويشير الباحث المغربي خالد بلقاسم في كتابه “الكتابة والتصوف عند ابن عربي” إلى أن جاك دريدا، رأى مثل هذه الثنائية عند أفلاطون، حيث فرق بين كتابة الحقيقة في الروح وكتابة منحطة. لقد كانت الكتابة ومازالت، هي فعل للتعبير عن الوعي، وأداة للحوار مع وعي، وهي تشتغل على صعيد إنتاج وعي، وكانت وراء التواصل الإنساني على صعيدي التاريخ والجغرافيا، فمن دونها يمكن أن نتصور المراحل التاريخية، حتى في إطار الأمة الواحدة والجغرافيا الواحدة، مجرد كيانات معزولة عن بعضها، حيث لا يرث الحاضر الماضي، ولا يكون الحاضر ماضيا. ولو تصورنا أن التاريخ يتشكل في محيط شفهي، لكان من المؤكد، أن ما ضاع منه ودخل في محيط النسيان، أكثر بكثير مما بقي منه، وفي مثل هذه الحالة يكون التواصل بين المراحل التاريخية وحضاراتها في أدنى مراتبه وأضعف حالاته، وكذلك يكون الحوار بين الأجيال ومعارفها، وما افترضناه على صعيد التاريخ، يمكن أن نفترضه على صعيد الجغرافيا، من حيث العلاقات بين القارات وشعوبها، فما كان بإمكاننا اليوم أن نعرف الإبداع الرافديني أو المصري القديم، أو الفلسفة الإغريقية أو الكتابات اللاتينية، بل ما كنا نعرف الملاحم الهندية والحكمة الصينية والشعر العربي. إن الكتابة هي الحياة التي نعرف والتي نعيش، ولو لم تكن الكتابة لكانت الحياة هي غير الحياة التي نعيش والتي نعرف. ويبقى أن نتوقف عند الكتابة الإبداعية، التي ليس من اليسير تحديد دوافعها، وإدراك فعل صدورها، حيث يختلط في هذه الدوافع، الذاتي والموضوعي، الواقع والرؤى، وفي النص الشعري تحديدا، حيث يتحد الفكر والجمال، في فضاء لا حدود له ولا ثوابت لمواصفاته، لذا يتراجع النص الإبداعي الذي يعتمد على الفكرة فقط، لأن الفكرة يمكن كتابتها بنص إنشائي مدرسي، أو مقالة صحافية أو منشور سياسي، بينما حين يعبر عنها برؤية جمالية رفيعة، وبنص جديد وإشكالي وتجريبي، يدخل مثل هذا النص في أفق تاريخي مفتوح، كما ملحمة كلكامش أو شعر هوميروس أو شعر المتنبي وأبي نواس أو مسرحيات شكسبير. شاعر عراقي مقيم في عمان حميد سعيد :: مقالات أخرى لـ حميد سعيد رأي في الكتابة , 2016/10/15 قول في الاغتراب, 2016/10/08 الثقافة بين التخريب والتحريم, 2016/10/01 الجمال والمتغيرات, 2016/09/26 أرشيف الكاتب
مشاركة :