صلاح ستيتيّة الشاعر الناظر إلى نفسه في عراء الوقت

  • 3/9/2014
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

حل الشاعر اللبناني باللغة الفرنسية صلاح ستيتية، مساء أمس ضيفاً على مسرح «ليديشارجور» - باريس في حوار مفتوح مع الكاتب والشاعر عيسى مخلوف والمخرج المسرحي نبيل الأظن. تطرّق هذا الحوار إلى نتاج ستيتيّة، شعراً ودراسة. في ما يأتي، تقديم عيسى مخلوف لهذا اللقاء الثقافي وترجمته لعدد من قصائد صلاح ستيتية الجديدة غير المنشورة والتي تصدر قريباً عن دار «فاتا مورغانا» في باريس. < قبل قليل، وصل صلاح ستيتيّة إلى باريس آتياً من قريته «ترامبلي سور مولدر» حيث يقطن في منزل قديم يرقى إلى القرن السابع عشر وكان أقام فيه، ذات يوم، الكاتب الفرنسي أونوري دورفي. إذاً، قبل أن يصل صلاح إلى هنا ويكون بيننا، تاركاً مسكنه الحالم وحديقته المزهرة، كان قد عبَرَ الزمان والمكان. من بيروت حيث ولد عام ١٩٢٩ إلى باريس حيث درس وعمل سفيراً للبنان، إلى دول ومدن كثيرة، شرقاً وغرباً، نسج فيها خيوط سيرته ورحلته، بل وهويته الثقافية المنفتحة والمتعددة. ما كتبه صلاح ستيتيّة في مجالَي الشعر والدراسة يتحرك ضمن رُقْعَة شاسعة تتجاوز الحدود الجغرافية المتعارَف عليها، ويتعرف إلى نفسه فيها كل من تجرأ على كسر السائد واقتحام الآفاق. وهو اختار الإقامة في الموقع الذي تُلغى فيه الحدود والفواصل بين الأجناس واللغات والأديان المختلفة. وفق هذا المنظور، نتابع مساره بين لبنان وفرنسا، بين اللغة العربية واللغة الفرنسية، وكذلك بين ضفتي المتوسط، يتنقل بينهما كأنه يتنقل بين غرفتين داخل بيت واحد. وإذ يركّز على الصوفية الإسلامية والمسيحية، بالإضافة إلى صوفية الشرق الأقصى، فليس من باب التوفيق بين الأديان، بل، بخلاف ذلك، من أجل الذهاب إلى ما يمكن أن يخرج منها ويتجاوزها، لغةً ورؤية، في آن واحد. الصوفية ليست نفياً في اتجاه المقدّس، بل توكيد هذا التوق الإشراقي وبحثاً عن الجوهر. من هنا تتكشّف الروابط الكثيرة، غير الملموسة في غالب الأحيان، بين المسعى الروحاني والمسعى الشعري، وإلاّ ما الجامع، في نتاج ستيتيّة، بين جلال الدين الرومي وريلكه، بين إبن عربي وهولدرلين، وماذا يفعل الحلاّج قرب رامبو؟ الحلاج القائل «الألف ألف الأزل واللام لام الأبد»، ورامبو في قوله: «كنتُ أكتبُ سكونات، ليالي. أدوّنُ ما لا يُعبَّر عنه»... أقرأ قصائد صلاح ستيتية الأخيرة بدهشة، ففي هذه القصائد يمعن الشاعر في تشريح الكائن من خلال تشريحه لنفسه. يصغي إلى دقات قلبه كأنها دقات قلب الليل، وإلى الدم الجاري في عروقه كالنسغ المتسرب تحت لحاء الشجر. كائن في الكون صلاح ستيتية. ينظر إلى نفسه في عراء الوقت الهارب ويفاجأ من نفسه. يفاجأ من نظراته الحيّة تلفح الشجر والطير والغيم العابر، وتحطّ في ذهول على الجماد! ثمّ يكتب كمن يقتفي أثر الغامض ساعياً إلى التقاط ما يتعذر التقاطه. وفي كتابته الغزيرة كثيرٌ من الصمت والتأمّل والإصغاء. أقرأه وأتساءل كيف يمكن من لامس، وبهذه الدرجة من الوضوح، الضفةَ الأخرى، أن يكون الآن بيننا؟ بل كيف يمكن من لا يزال بيننا أن يحدثنا عن ضفاف بعيدة كأنه فيها مقيم؟ حيّرنا صلاح ستيتيّة ورمانا في جُبّ الأسئلة العميقة. حيّرتَنا، يا صديقي، حين كتبتَ عن نفسك ما كنا سنكتبه عن أنفسنا في أحد الأيام. وفي منزلكَ الشعري الذي اخترته مكاناً لإقامتك على هذه الأرض، جعلتنا نشعر بأنّ اللحظة الآنيّة - كلّ لحظة آنيّة وقبل أن تنقضي- هي لحظة أبدية بامتياز. رماد أشعلتِ الشمسُ منزلَ الشمس هدأت الموسيقى الفانية، طفلةُ الرمادِ الجميلةِ شوَّهَتها نسمةٌ جميلةٌ ومرحَّبٌ بها. في اللامخيّلةِ ستنامُ الموسيقى محاطةً بطبولِ العدَم   منزلي فانٍ منزلي من زجاج ويحرسه هَزار الهَزارُ الأكثر ضماناً: الصمت   طيرانُ فراشةٍ في الجهةِ الغامضة كنتَ طفلَ لوحةٍ خضراء معلّقة فوق جدارِ الريحِ السميك ساقيةٌ تحتَ قدميك أرنبٌ وسَرخَس أيِّلٌ في أصفى الغاباتِ ينظرُ إليك مرَّ الوقت. كنتَ قرداً يعتلي شجرة   مرَّ الوقتُ ومرَّ الزّمان القدَرُ، آكلُ كلّ شيء، يأكلك يداك، قدماك، ملحك، سكّرك كلّ ما فيك، من الآن فصاعداً، خبزٌ - لِلا ملاك.   بيدٍ متيبِّسة ثمّة من يمحو فوق رأسك فراشة.   فراشة، فراشة (نملة، نملة). ليودِعَها صندوقَ قُمامةِ القمر السديمَ والسؤال.   نشيدٌ إلى الوَقْعِ الدَّفين دخلتْ شجرةُ الزيتونِ المنزلَ لتحيّي عودةَ الروح ترافقها نارُ الفصولِ الكثيفة في أزرقها المرعب حيث عشنا بِشغَف   (بشغَفٍ عشنا بشغَفٍ ركضنا بشغَفٍ تَضاءلنا بشغَفٍ متنا)   والآن طَوافُ البحيرات طوافُ الأزهارِ والأشجار، آه! الأشجار التي حيكتْ بالدموع... أحدُهم (وقد يكونُ أنا نفسي) دارَ حولَ العصافير ثمَّ نامَ على ظاهرِ يدَيه وكلاهما مسرحٌ واحدٌ، حُبٌّ واحد   في محاذاة الخسارة القطُّ الضائعُ يدخلُ في المَجاز رآهُ الطفلُ وصرخَ باسمهِ الناريّ واهتزّتْ جذورُ الجبل   هل حدثَ ذلك في ذاكرةٍ أخرى ذاكرة من؟ ذاكرة ماذا؟ طالما أنَّ بلَّورَ وجهي لا يزالُ هنا في قلبِ الجبل منتظراً خَلاصَهُ في الخِرَق   يقولُ القطّ: «هذا ما سينتهي قريباً» يقولُ الطفل: «هذا ما سينتهي قريباً» في الصوتِ السابقِ للصمت في الصمت:   لونٌ لونٌ ملتمعٌ لا يُعَدّ   الرّاقدون يتحدّثونَ عن الريح، وكانَ قد حلَّ الليل مع الآلهةِ العابرينَ خلسةً ولصوصِ الظّلال أعطيناهم شَراباً عند الشَّفَق فابتسموا ولم يشربوا ومضوا.   هَبَّتِ الريحُ. حملتْ القليلَ من الزَّبَدِ إلى الشُّرفَةِ، تحتَ العِنَب كانَ البحرُ يتمرَّنُ عندَ عتباتِ البرونز ويَهذي بِهُدوء.   كنَّا نَهذي، نتركُ أيدينا تتبعثرُ في مربَّعاتٍ ضيِّقة والريشُ يَحومُ فوقَ الشُّرفة وهي تَحومُ معنا، ونحنُ نيام.   اللّغز «يطيرُ الطفلُ، يطيرُ الطفلُ» صرَخْتُ في الغرفة طارَ الطفلُ في الغرفة وامَّحى في الجدار.   رائحةُ الماء أطلبُ السلامَ للقادرينَ على إعطائه كأنّه ملكيَّتُهُم الخاصّة، شيءٌ من أشيائهم السلام الذي ليس هو حمامة، ولا هو تِرغَلَّة فاتنة وإنّما أثرٌ بسيطٌ من قلبٍ مألوف كلماتٌ متبادَلَة ويمكنُ أن يتقاسَمَها البشر لقَولِ الجوعِ والعطَش، الخُبزِ والشِّعر المطرِ في نظرةِ من يَتبادلون الحُبّ.   الحِقدُ. الحِقد. أسيادُ السَّلامِ هم أيضاً أسيادُ الحِقدِ. أسيادٌ صِغارٌ، أسيادٌ كبارٌ، حِقدٌ شاسعٌ دائماً. الفولاذُ هنا، وهو المَعدِنُ الرَّماديُّ - الأزرَق الذَّرَّةُ هنا ومنها نَصنعُ ما هو أفضل من مُرَبَّياتِ الفطورِ التي نأكلُها مع الزُّبْدَةِ والكرواسّان.   أسيادُ الحربِ والسّلمِ يَسكنونَ فوقَ الغيومِ في حَمَلايا أبراجِ المصارف أحياناً يرَوننا، لكنَّ حِقدَهُم هو الذي يرى، في أغلبِ الأحيان: ولِحِقدِهم نظَّاراتٌ سوداء نعرفُها   ماذا يريدون؟ أن يتركوا أسماءَهم في التاريخ إلى جانبِ من هم من سلالةِ الإسكندر ونابليون هتلر ليس غريباً عنهم مهما قالوا: على أيِّ حال، صُنِعَ البشرُ لكي يموتوا أو، عِوَضاً عن ذلك، لكي يُقتَلوا وهم، على طريقتِهِم الفُضلى، يخدمونَ نظاماً ما الفوضى من مهمَّةِ الكلاب - أمّا البشرُ فهذا يعني التمدُّن إذاً على وَقعِ الجِزَمِ، وقصفِ المدافعِ والقنابل لِيَسودَ النظامُ حيثُ كادتِ الحياةُ، بفعلِ ضرباتِ أزهارِ الربيع، أن تُعَطِّلَه   بفعلِ ضَرَباتِ أزهارِ الربيعِ والأصابعِ المتشابكَة، ونكهةِ الضوء، هذا الصمتُ الطويلُ الذي يستقرُّ فوقَ الأشياءِ، فوق كلِّ أثَرٍ، على الشفاهِ وجِلدِها السعيد، حين يبدو كلُّ شيءٍ وكأنّهُ يسيلُ من نبعٍ كنَهْر في عالمٍ ليس جامداً، عالمٍ ثمِلٍ قليلاً، يذهبُ ويجيءُ، ويتنفَّس...   أيّها العـــالمُ... يا أنــتَ مـــع جمالِ بحارِكَ، مع أقاليمِكَ، خطوطِ الطولِ، القارّات مع رجالِكَ السودِ، رجالِكَ البيضِ، رجالِكَ الحُمرِ، رجالِكَ الصُّفرِ، رجالِكَ الزُّرق ومع بهاءِ نسائكَ وسطوعهنّ وقد امتلأنَ بعيونٍ وأثداء، بظلالٍ شَهِيَّةٍ وسيقان أيّها العالمُ، ومعكَ الثلجُ فوقَ القممِ والكثيرُ من الثمار في وديانِكَ وسهولِك الكثيرُ من القمح، من الأرزّ الثمين، لو فقط أردنا أن نتركَ «غايا» الكريمة تُنجِبُ الكثيرَ من الأطفال، الكثيرَ من الأطفال، وللملايينِ منهم، الكثيرَ من الذُّباب أيّها العالم، لو فقط كنتَ تريد أن تُفَلّي الجمجمةَ الصلعاء من القَملِ، هذه الكائناتُ الجراد وتُسرَّ لها، كإملاء اليَعسوبِ، شيئاً من حكمتكَ الأبديّة   أَطلبُ السلامَ لجميعِ القادرينَ على إعطائه وهم قِلّةٌ، على أيِّ حال، رجالُ العُنفِ والبرد قد تَكونُ لهم أيضاً، على الرّغم من المظاهر، ذكرياتُ طفولةٍ، أمٌّ مَحبوبَة أسطوانةٌ قديمةٌ طالما استمعوا إليها، في الماضي   آه، لترجِعَ إليهم لحظاتُ الذاكرة مع باقةٍ من البَنَفسَج! عندئذٍ سيتذكّرونَ صباحاتِ الندى رائحةَ الماءِ ودخانَ الفجرِ على سطحِ القمر.

مشاركة :