على امتداد أكثر من نصف القرن وهو يوظف قدراته الإبداعية وثقافته اللغوية والتراثية لتوسيع رقعة الاهتمام بلغتنا العربية من جيل إلى جيل، وقد نجح من خلال برنامجه الإذاعي "لغتنا الجميلة"، الذي تحتفل الإذاعات العربية، بعد شهور، بمرور خمسين عامًا بالتمام والكمال، على بث أولى حلقاته من إذاعة القاهرة في سبتمبر/أيلول من عام 1967. ولعل هذا هو ما رشح الشاعر العربي الكبير فاروق شوشة، الأمين العام لمجمع الخالدين بالقاهرة، ورئيس الإذاعة المصرية، ورئيس اتحاد كتاب مصر الأسبق، وعضو العديد من لجان المجلس الأعلى للثقافة في مصر ليصبح رئيسًا لمجلس أمناء "جائزة محمد بن راشد للغة العربية"، ولعل هذا هو سبب لقائي به اليوم وسؤاله عن الفلسفة التي تصدر عنها "جائزة محمد بن راشد للغة العربية" والهدف الذي تسعى لتحقيقه. قال: هي الجائزة التي تجيء في سياق عدة مبادرات لمحمد بن راشد؛ أولى هذه المبادرات كانت بهدف تحديث تعليم اللغة العربية في المدارس، وشكلت لهذا الأمر لجنة برئاسة العالم الكبير فاروق الباز. •فاروق الباز؟! -نعم، ومعك الحق في التساؤل، فأنا قبلك دار بذهني هذا السؤال، وعندما سألت فاروق الباز عن علاقته باللغة العربية قال لي: "لأن الشيخ محمد بن راشد يريد للغة العربية أن تصبح لغة العلم في العصر الحديث، وأن ما ينقصها هو توفر هذا الجانب العلمي في الكتابة، ولأن معظم ما يكتب في المجال العلمي مترجم، فنحن من خلال هذه المبادرة نريد أن نشجع العلماء العرب على التأليف بالعربية، ونحفز لقراءة نماذج من هذه اللغة العلمية، على أن تكون متضمنة في النصوص المدرسية، فلا يكتفى فقط بالنصوص الأدبية. هذا كان التوجه، ومن أجله كانت اللجنة برئاسة العالم الدكتور فاروق الباز، وكنت أحد أعضائها. •ومتى كان ذلك؟ -منذ خمس سنوات، وانتهت إلى إصدار تقرير طبع في كتاب دار حول فكرة تجديد أو تطوير تعليم العربية شمل عدة محاور. •هل نطلع القارئ عليها؟ -بكل تأكيد. من هذه المحاور المنهج الدراسي، وكيفية إعداد المعلم، وتوفير المناخ الدراسي للغة. •هذه إذن مبادرة "العربية.. لغة حياة". -بالضبط. وهدفها جعل اللغة العربية في خدمة أغراض الحياة اليومية، كي لا تكون معزولة عن مسايرة التطور المجتمعي والحضاري في البيئة العربية. •وماذا عن مبادرة خدمة اللغة العربية؟ -خدمة اللغة العربية تتحقق الآن بمجالات كثيرة. •فلنضرب أمثلة على ذلك؟ -هناك من يترجمون ويُعرِّبون، وهناك من يُنشئون مشاريع لتعليم اللغة العربية بطريقة رقمية مستعينين بالحواسيب والتكنولوجيا العلمية الحديثة في هذا التعليم، وهناك من ينصب اهتمامهم على وضع مناهج لتعليم لغتنا الجميلة لغير الناطقين بها فيما يسمى "تعليم اللغة العربية للأجانب"، وهناك سبل ووسائل لدعم اللغة العربية عن طريق مشاريع تربوية غير نمطية، كتعليم اللغة العربية بالغناء والتوسل بالموسيقى، وتعليم اللغة العربية عن طريق استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والاتصال الالكترونية: الموبايل والآيباد. وكيفية استخدام منجز العصر في تعليم اللغة العربية. •وماذا عن جائزة محمد بن راشد للغة اللعربية التي ترأس مجلس أمنائها؟ -تتسع الجائزة لأحد عشر مجالًا يحكمها مجال التعليم، ومجال الإعلام، ومجالات: التكنولوجيا، الترجمة والتعريب، ... وهكذا. •ويضيف فاروق شوشة قائلًا: -جاءت المبادرة الثالثة من خلال طرح معجم عصري، فأنت تعلم أن المعاجم اللغوية العربية، في معظمها، تضم مادة قديمة تشمل اللغة العربية من بداياتها إلى وقت قريب، ولكن اللغة العصرية التي تجري على الألسنة الآن في المعارف كافة، هي لغة جديدة جاءت من خلال الترجمة والتعريب، واشتقاق تعابير ومصطلحات لتلائم الحياة في ظل الحضارة الحديثة. وكان التحدي الكبير الذي أمامنا هو كيفية وضع معجم جديد يضم أو يخدم أصحاب حرف حديثة في هذا الزمان. بحيث يَستخدِم هذا المعجم من يعمل في مجال الفنادق، أو في السياحة، أو في مجال اقتصادي أو علمي، أو في مجال المال والأعمال. وهذه الفكرة جاءت من خلال تأمل نتائج بعض المؤتمرات العربية في خدمة اللغة العربية التي كانت تعرض نماذج مما يواجهه شباب العاملين في هذه المجالات عندما نطالبهم باستخدام اللغة العربية في عملهم، فيكون ردهم: أين هي اللغة العربية التي يمكن أن تستخدمها بدلًا من التعابير والألفاظ الأجنبية؟ّ! هل تدلوننا عليها؟ من هنا جاء التفكير في وضع معجم عصري جديد مخالف لكل المعاجم القديمة من حيث المنهج، والجمع، والإعداد، والصياغة، بحيث نقدم هذا المعجم للعاملين في مجالات حديثة نتجت بعد أن تطورت مجتمعاتنا العربية. وهذا المهجم اهتمت به اللجنة القائمة لخدمة اللغة العربية. •وما هي الخطوات العملية التي سلكتموها ليصبح هذا المعجم، عند صدوره، مؤثرًا تأثيرًا حقيقيًا في أوسع دائرة من المجتمع العربي؟ -حرصنا بالفعل على الاتصال بالقائمين على كبريات دور النشر العاملة في مجال إصدار مُعجمات اللغة، مثل دار أكسفورد التي قدمت واحدًا من أهم المعاجم الإنجليزية، ومكتبة لبنان التي صنعت العديد من المعاجم العربية، وغيرهما من الدور لنتوصل إلى الصيغة المثلى لهذا المعجم الأحدث، والدار التي يمكنها أن تتفهم مشروعنا على حقيقته، وأن يكون لديها من الباجثين والخبراء المتصلين باللغة العربية من يخدم هذا المشروع. •نصل إلى مبادرة مهمة أخرى تتصل بالقراءة. -الشيخ محمد بن راشد، شأنه شأن المختصين في التربية يؤمن بأن القراءة هي المدخل الصحيح لتعلم اللغة. •ويضيف شوشة قائلًا: -بعض الناس يتخيلون أنك عندما تبدأ بتعليم الطفل اللغة فعليك أن تبدأ بدروس النحو والصرف لتجعله بذلك يمتلك المهارة اللغوية! بينما الحقيقة تكون على العكس من ذلك تمامًا، فأنا أعرف أساتذة في الجامعات العربية يقومون بتدريس النحو ولا يستطيعون أن يرتجلوا حديثًا سليمًا بالعربية لمدة دقيقتين! فالقدرة اللغوية ترتبط بأن أقرأ وتتكون لدي ذخيرة من خلال هذه القراءة الواعية الفاهمة، ذخيرة لغوية وأسلوبية وتعبيرية أستطيع من خلالها التعبير في أي ظرف أواجهه. ومن خلال هذه القراءة المخطط لها تكتشف القواعد. فعندما نقول: لماذا جاءت كل هذه الكلمات "مرفوعة" في نص أمامنا، نكتشف أن الأولى "مرفوعة" لانها "مبتدأ"، والثانية لأنها "الفاعل الذي فعل الفعل"، والثالثة لانها جاءت بعد "كان" أو "أصبح". معنى هذا أن تعليم القواعد أو النحو العربي.. لا بد أن ينبع من مادة لغوية حقيقية تُقرأ وتُفهم وتُحلل، وهذا ما نسميه "النحو من خلال النصوص". ويتم ذلك من خلال قراءة "قصيدة" وشرحها وفهمها، ومطالعة فصل من "رواية" لكاتب كبير مثل نجيب محفوظ، أو "مقال" لصحفي مرموق، ومن خلال قراءة هذه المادة ومناقشتها وفهمها نبدأ في اكتشاف التركيب، ويتضح لنا: لماذا يتحتم أن تأتي الكلمة هنا "منصوبة"، ولماذا جاءت أخرى "مجرورة"، وبهذا نتدرج في تعلم اللغة العربية وقواعدها. •وهذه المبادرة الرابعة للشيخ محمد بن راشد بدأت في العام الماضي، وكانت جوائزها مليونين من الدولارات تعطى للأطفال الذين قرأوا خمسين كتابًا في العام. • ويوضح فاروق شوشة: -نحن في مدارسنا مازلنا أسرى لما يسمى "كتاب المطالعة" الذي تقرره وزارت التعليم لتلاميذ المدارس، وهو كتاب في مائة صفحة أو يزيد ويضم بين دفتيه عشرين موضوعًا، يطلب من التلاميذ قراءة بعض هذه النصوص على مدار العام. في الوقت الذي يقرأ الطفل الأجنبي عشرات الكتب، ولا يقف التعليم عند مجرد "كتاب المطالعة". ولمواجهة النتائج السلبية المترتبة على ذلك جاءت "مبادرة تحدي القراءة". أي أننا نستطيع أن نكتشف إمكانيات في الطفل العربي تتجاوز قراءة هذه الكتب الخمسين في بعض الأحيان، ونرصد الحالات التي قرأت في مدارس من مختلف أقطار الوطن العربي، لتمنح هذه الجائزة. •ويستطرد فاروق شوشة قائلًا: -نسيت أن أذكر لك أن جائزة خدمة اللغة العربية في أحد عشر مجالًا تقدر قيمتها بمليون دولار، بواقع سبعين ألف دولار لكل مجال. وأعتقد أن هذه المبادرات الرائعة للشيخ محمد بن راشد تحرك المناخ اللغوي والمناخ العلمي، وتعيد للعربية هيبتها كواحدة من أهم لغات البشر. ولأنها تعتمد على ابتكارات جديدة أشبه بالمغامرات، فقد نجحت في إلقاء الضوء على مثل هذه النماذج: معلم لغة عربية استطاع أن يجعل أطفاله جميعًا لا يتكلمون إلا باللغة العربية السليمة في البيت، وفي السوق، وفي المدرسة، وبعضهم كبروا وصاروا أطباء ومهندسين لكنهم لم يفرطوا في سلامة لسانهم العربي. شخص آخر أنفق سنوات طويلة من عمره في تعليم اللغة العربية بطريقة تتوسل بالصورة من خلال جهاز تليفزيون. وقد نال الجائزة لأنه أعطى التطبيق العملي المطلوب لكسر الحاجز بيننا وبين اللغة العربية. هذه مبادرات أربع للشيخ محمد بن راشد، ونحن في مجلس أمناء "جائزة محمد بن راشد" نعمل في مبادرتين: الأولى: خدمة اللغة العربية في هذه المجالات، والمبادرة الثانية: الإشراف على إنجاز المعجم العصري الجديد. •أستاذ فاروق.. باعتبارك الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي يحمل على عاتقه، منذ سنوات طويلة، عبء تعريب المصطلحات، وإخضاع ألفاظ الحضارة الحديثة للساننا العربي. ما هو الاختلاف الذي تجده في عمل المجامع العربية عنه في عمل هذه المؤسسة؟ -المجامع العربية تعمل بأسلوب مختلف، فمعظمها مشغول بمشروعات بدأت منذ عشرات السنين ولم تكتمل حتى الآن. فمجمع اللغة العربية بالقاهرة مشغول منذ سنين طوال بإنجاز ما يسمى بـ "المعجم الكبير"، الذي بدأ العمل فيه منذ نصف قرن، وقد وصلنا الآن إلى الجزء الحادي عشر. •إلى أي حرف؟ -حرف السين. والسؤال هو: متى يمكننا أن ننتهي من حرف السين هذا؟ ومن الجزء الحادي عشر؟ وهل سيكمله أحفادنا؟ تصور أننا شكلنا خمس لجان لإنجاز هذا المعجم بدلًا من لجنة واحدة حتى نُسَرِع من إيقاع العمل. أيضًا المجمع كان مشغولًا بتحديث أشهر معجم عربي أنجزه، وهو "المعجم الوسيط"، وهو أعظم إنتاج معجمي لمجمع الخالدين بالقاهرة، عمره الآن ستون سنة، لكن مشكلته أنه طوال ستين عامًا لم يطرأ عليه أي تحديث، بينما المعاجم في العالم كله ينبغي أن تخضع للتحديث كل عشر سنين، يضاف إليها أو يعاد طبعها في طبعات جديدة، وتسحب منها كل الكلمات المماتة، التي لم تعد تستخدم. ونحن على مدار ثلاث سنوات ماضية انشغلنا بتحديث "المعجم الوسيط،" أي إضافة ما أقرته لجان المجمع العلمية واللغوية إلى متنه. والمادة الجديدة التي ستدخل في الوسيط ستجعل حجمه يزداد مرة ونصف. والمشروعات والمبادرات التي يطلقها الشيخ محمد بن راشد في دبي هي بالتأكيد أكثر فاعلية من عمل المجامع اللغوية لعصريتها وفاعليتها، فالمجمع لا علاقة له بتعليم اللغة العربية، لأن هذا هو دور وزارات التربية والتعليم، فعليه التخطيط ووضع الأفكار، وطرح المشاريع، لكن الناس لا تعي ذلك، فهي كلما صادفها خطأ راحت تقول: أين مجمع اللغة العربية؟ وما تأثيره؟ مع أن هذا ليس من عمل المجمع، ولا يدخل في تخصصه بحال من الأحوال. فالمجمع أكاديمية تقدم بحوثها لمن شاء أن يستفيد منها، وتضع المعاجم. وعلى فكرة نحن لا نضع معاجم لغوية فقط، فلدينا ست وعشرون لجنة علمية متخصصة في كل فروع العلم، مهمة كل منها وضع معجمها من "النفط" إلى "الجيولوجيا" و"الفسفة" و"الأحياء". وعمل المجمع الأساسي هو تشجيع لغة العلم حتى يدرس العلم في الجامعة وفي المدارس بالعربية. •يوصلنا هذا مباشرة إلى سؤال ضروري: هل يؤمن فاروق شوشة، على المستوى الشخصي، بأن العربية تمتلك كافة مقومات تعليم الطب والعلوم في جامعاتنا؟ -اللغة العربية قدمت الدليل على هذا، وكان أمامها امتحان صعب في العصر العباسي إبان ازدهار الثقافة العربية، عندما بدأ مشروع ترجمة التراث الإغريقي إلى العربية في الطب والفلسفة والمنطق والعلوم والفلك.. والدراما أيضًا. فقد اتسعت اللغة العربية لكل هذه العلوم، ولم تكن هناك مشكلة، لا في ترجمتها ولا في صياغاتها العربية. والكتب التي أنتجها ذلك العصر ما تزال رائدة في هذا المجال. فاللغة العربية تخطت حاجز المعرفة من قرون، وهي قادرة الآن على النهوض بهذه المسئولية. ويجب أن نتذكر أن أول كلية للطب نشأت في مصر في العصر الحديث هي كلية طب قصر العيني في عصر محمد علي، كانت تُعلِم باللغة العربية. وهذا دليل على أنه إذا كانت الإرادة في الدولة تتطلب سيادة اللغة العربية، فإن هذا يكون ممكنًا على مستوى الواقع. والذين يقفون في وجه تعليم العلوم باللغة العربية هم الذين لم يتعلموا العربية! ولذلك فهم يقومون بتدريس الطب والعلوم بلغة خليط، لا هي عربية ولا أجنبية. وللأسف خريج كليات الطب عندنا لم يعد يُلِم بأصول الإنجليزية ذاتها. وبالتالي: العودة إلى تعليم العلوم باللغة العربية باتت أمرًا أساسيًا لأن القاعدة تقول إنك إذا تعلمت علمًا بلغتك القومية أمكنك أن تبدع فيه وتضيف إليه وتخترع. أما إذا تعلمته بلغة أجنبية فمن العسير أن تتكيف معه عقليًا ولغويًا.
مشاركة :