وداعًا، أَيّها الأمير - الدكتور عبد الرحمن الجدَيع

  • 3/10/2014
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لا يختلف اثنان، قُدِّر لهما التعامل مع الأمير عبد الرحمن الفيصل، على ما يتمتع به هذا الأمير الفذّ من سموّ في التعامل، ورفعة في المواقف، ومكارم الأخلاق، وحسن المناقبية. منذ فجر حياته، كان الأمير عبد الرحمن محطَّ تقدير واعتزاز كلّ مَن عرفَه من السعوديين، بل حتى في عين والده الفيصل العظيم. وقد ذكر الأمير خالد الفيصل، في أحد خطاباته، انه بينما كان ذات يوم جالسًا مع والده الفيصل - رحمه الله - إذا بالأمير عبد الرحمن يدخل المجلس وهو يرتدي البزَّة العسكرية. وما إن رآه المغفور له الملك الفيصل حتى انفرجتْ أساريره وارتسمت على شفتَيه بسمة عريضة، وابتدره بالقول: "جاء البطل." ويعلّق الأمير الشاعر خالد الفيصل على ذلك قائلاً: "لقد شعرتُ حينذاك بشيءٍ من "الغيرة"، إذ إنّني كنتُ أرغب في الالتحاق بالكلية العسكرية، إلاّ أن مواصلتي لدراستي الجامعية حالت دون ذلك." لقد عُرف الأمير عبد الرحمن كقائد عسكري مستعدٍّ لخوض المعارك دون هوادة. لم يعرف الخوفُ إلى قلبه سبيلاً، ولم يُفسح للظلم مجالاً في نفسه. لقد اتّصف، رحمه الله، بشيمٍ سامية منذ دراسته الدولية في مدينة برنستن إلى تخرجه من كلية ساند هيرست العسكرية المرموقة عالميّاً. كان-رحمه الله- واسعَ الاطّلاع، ملمًّا بالعديد من اللغات، نيّرَ الفكر، حادّ الذكاء، على رجاحةٍ في العقل تعكس عمق التفكير وقوة المنطق وسلامة الرأي. لقد أسهمت هذه السماتُ القيادية في بلورة شخصيته، وساعدته في اكتساب القدرة على تحسّس مشاكل الآخرين والعمل على تقديم يد العون إن زملاءكم أيها الأمير في الثكنات العسكرية ومن لمسوا ثمارَ التعامل معكم عن كثب لم ينسوا شجاعتكم وإقدامكم وقوةَ شكيمتكم بعد أن قُدتموهم في بطون الصحراء لتُشرفوا على الثغور المهمّة للوطن إبّان الحروب والأزمات. وكان هدفكم، في خلال بعض الحروب، هو الوصول الى بحر العرب لولا توجيهات القيادة الصارمة لكم بالعودة والاكتفاء بالمرابطة لصيانة حدود هذه المملكة الرائدة. ولقد أهابتْ بي تلك المواقفُ الباسلة، وأنا أستذكرها، إلى أن أنظم فيكم قصيدة أقول في بعض أبياتها: هذي الجزيرة ما أحلى روابيها ونجدُ يَعرُبَ قلبٌ نابض فيها قوم على دعوة التوحيد قد نهضوا بدولة لم ينمْ في الليل راعيها هذا الأمير أصيلٌ في مروءته أبو السعود حوى أسمى معانيها له المواقف إبَّانَ الوغى عُرفتْ قاد الجيوش ولم يرهبْ دواهيها لم تكن مواقف الأمير قائمةً على حبّ الوطن والإيمان به والتفاني في سبيله فحسب، بل ثمّة مواقفُ له أيضًا تعكس بِرَّه بالوالدين. وقد تجلّت عندما أسهم، مع إخوته الأمراء الأجلاء، في الوفاء للفيصل العظيم في إقامة "مؤسسة الملك فيصل" الخيرية و"جامعة الفيصل" الفتية. وكان-رحمه الله- معهم أيضًا في تشييد "جامعة عفّت" تقديرًا لدور والدتهم الفاضلة والخيرة في تجسيد مكارم أخلاقها وحبها لبنات هذه المملكة بإنشائها أول مدرسة للفتيات في مدينة جدة. إن غيّبكم الثرى، فلن تغيبوا عن قلوب كلّ مَن عرفكم من زملاء ومريدين ومحبّين. ستظلون دائمًا تلك الشعلة التي تتأجّج في قلوبهم كي تبقى ذكراكم خالدة كما هي مسيرتكم وحبكم للآخرين. وكم هي بيضاء يمينكم التي طالما امتدّت ولامستْ آلامَ الناس وخفّفت من أوجاعهم. ولَشدَّ ما كنتم تساعدون بصمت، وتعملون بصمت، وتسهمون في رفع المعاناة عن الكثيرين في صمت كذلك. لقد عشتم حياة الكبار المترفّعين عن سفاسف الأمور، البعيدين عن الأنانية الذاتية وعن الأضواء. أعرف أنكم غبتم ولن تعودوا. وأعرف أيضًا تلك الشهامة التي تميزت بها أفعالكم وشمخة العز التي طالما توَّجتْ جبينَكم. وأعرف أن الحياة التي عشتموها، كما كنتم تقولون، هي في استقامة النهج وصدقية الكلمة والعفو عند المقدرة. أَوَليست هذه الخصال هي شيم الرجال الأفذاذ؟. ولا غرو في ذلك، فأنت ابنُ الفيصل بن عبد العزيز الذي عرف بعلو الهمة وكره الانتقام. وهي، تالله، من شيم العظماء الأتقياء. لن ننساكم، أيها الأمير الرائع، ولن ننسى طيب معشركم ودماثة خلقكم ورقيَّ تعاملكم. إنّني إذ أودّعكم أميرًا وموجّهًا، ستبقون مثالاً يحتذى في الرعاية واحترام الآخرين. وستبقى لمساتكم الإنسانية علاماتٍ مضيئة في حياة الكثيرين الكثيرين عبر السنين. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنّا على فراقكم، أيها الأمير الإنسان - رحمكم الله وأكرم لقياكم - لَمحزونون. وإنّا لله وإنّا اليه راجعون.  *السفير السعودي - الرباط    

مشاركة :