أحلام النوارس تداعيات العائد من مقبرة الأحياء يُعرّف البعض أدب السجون بأنه نوع من أنواع الأدب يُعنى بتصوير الحياة خلف القضبان، ويناقش الظلم الذي يتعرض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى الزنازين، حيث يقوم السجناء أنفسهم في الكثير من الأحيان بتدوين يومياتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، لكن الكثير من الروايات لم تكن توثيقا للأحداث فقط، بل تجاوزت ذلك لتبرز الشرخ النفسي الذي أحدثته التجربة المريرة في النفوس، وتداعياتها على حياة السجين بعد خروجه من الظلمة وعالم التعذيب والمعاناة. العربفيصل عبدالحسن [نُشرفي2016/10/18، العدد: 10428، ص(14)] بقايا إنسان يعيش ذكرى الألم (لوحة للفنان أحمد السوداني) ينقل الكاتب والروائي المغربي مصطفى لغتيري، في عمله الجديد الموسوم بـ”أحلام النوارس”، ما يفكر فيه المثقف العربي، الذي يعيش حلمه الخاص بتغيير حال مواطنيه، وجعله أفضل، فيصطدم بالسلطة السياسية. تسرد الشخصية الرئيسية، في الرواية، ما حل بها عن طريق مونولوج طويل -حكي مع الذات- مع وصف جانبي لما تعيشه مجموعة من المشردين من ظروف معيشية وإنسانية صعبة. أدب السجون تنتمي الرواية، الصادرة عن دار “الأمان”، بالرباط (2016) إلى أدب السجون، لأنها تحكي مأساة سجين سياسي، أمضى عدة سنوات في السجن بسبب نشاطه السياسي، وخرج من السجن بعاهة مستديمة وروح ميتة. لم يحدد لغتيري مكان الرواية، بل جعل الفضاء حرّا، لكنه يبدو أنه في مكان ما في الوطن العربي خلال فترة أواخر السبعينات من القرن الماضي. الراوي هنا يعمد إلى التعتيم حول تاريخ سجن بطله، وجعل مكان تعذيبه مجهولا. وهذا التوجه نلمسه أيضا في العديد من الأعمال الروائية العربية السابقة مثل “تزممارت.. الزنزانة رقم 10” لأحمد المرزوقي، و”القوقعة” لمصطفى خليفة، و”يا صاحبيّ السجن” لأيمن العتوم، و”شرف” لصنع الله إبراهيم، و”شرق المتوسط” لعبدالرحمن منيف. أغلب الحكومات تضع في قاموسها أن التغيير الذي يطلبه البعض من المثقفين في حقيقته تمرد على ثوابتها من جهة أخرى يتناوب المشردون في الرواية في عملية الظهور والاختفاء، فبدوا كشخصيات هلامية لا ملامح لها، لكنها تكمل مشاهد الرواية، وتعطيها بعدا إنسانيا. هذه الشخصيات تحكي ما عجز عن قوله الروائي، لأنّها تحتاج إلى فصول كثيرة لوصف مخلوقات فقدت ملامحها البشرية، وتحولت إلى حيوانات لها أشكال البشر بسبب الفقر والجهل والمرض. وفي أحد فصول الرواية يصف الكاتب كلبا يرافق هؤلاء المشردين، فيشير إليه إشارة دالة إلى أنّ “الكلب” أكثر حياة وعقلانيّة ممن يرافقهم. يصطدم حلم المثقف بالتغيير في الرواية عادة بأعوان السلطة، الذين يرون أنّ التغيير مهمة الحكومة، وأنَّها الأولى بالمواطن، وبتغيير أحواله. كما أنّ الحكومات تضع في قاموسها أنّ التغيير الذي يطلبه البعض من المثقفين في حقيقته تمرّد على ثوابتها، وإنْ سمحت به فإنّها ستَهدُّ نظاما يراه المستفيدون منه جيدا وعابرا للسنوات. يحكي السارد أحمد عبر مونولوج طويل من خلال ستة وعشرين فصلا قصيرا، معاناته في السجن بسبب انتمائه إلى مجموعة تطالب بتحسين ظروف حياة الشعب. ويكتب أحمد لحبيبته السابقة نجوى عقب خروجه من السجن محطما، وهو يعاني من عاهة مستديمة “في اليوم الذي أطلقوا فيه سراحي، خرجت أحمل عاهتي التي عرفت بأسى عميق أنني لن أتخلص منها أبدا، ستلازمني ما حييت، وغدت جزءا من حياتي القادمة”. ويتابع “أتذكر حين حدثتك بحماس عن الظلم الاجتماعي.. عن القهر الذي نعاني منه كطبقة مسحوقة، تحيا على الهامش، وتقتات من الفتات”. والبطل ليس لديه غير صورة لنجوى يبثها أشواقه، ويروي لها ما عاشه في السجن. رواية تصور صدام المثقف مع السلطة ويحكي لها كيف تعرض إلى التعذيب للاعتراف بأسماء جماعته، لكنه صمد ولم يبح بأسمائهم، ودفع ثمن ذلك الصمود عاهة مستديمة من فرط التعذيب. وفوجئ بعد أيام قليلة بالقبض على أفراد مجموعته، ولا يدري كيف عرفوا أسماءهم، ولكن جماعته ظنوا أنّه هو مَنْ وشى بهم، يقول “آه.. كم من الآلام تحملت ولم أنطق بكلمة واحدة. سألوني عن الذين كنت أجتمع معهم. أنكرت معرفتي بأي شخص”. مقبرة الأحياء نجح الروائي مصطفى لغتيري في بناء بطولة تراجيدية لأحمد، فهو من جانب لم يخن قضيته ورفاقه، لكنه في المقابل لا يتلقى منهم إلا الاحتقار والضغينة لاعتقادهم أنه هو مَنْ وشى بهم. الصفحات التي تلت هذه الذروة، هي أهم ما جاء في الرواية عن عمق المأساة التي عاشها البطل، الذي ضحّى من أجل الجميع، ولم تقابل تضحيته إلا بالاستنكار والإدانة بمن يفترض بهم أن يكونوا السباقين لتمجيد تضحيته. وتتخلى عنه حبيبته، وتتزوج وتسافر إلى جنوب فرنسا مع زوجها عقب دخوله السجن. وتتركه جماعته ظنا منها أنه خان قضيتها وأفشى أسرارها. ولم يجد أحدا ينتظره خارج السجن، بعد حصوله على العفو، مما تبقى من العقوبة السجنية، وهو يشير إلى الأهل والأصحاب الذين تخلوا عنه أيضا. وترهقه عاهته التي خرج بها من السجن الذي يصفه بـ”مقبرة الأحياء”، وتحيل حياته إلى جحيم. وجاء الفصل الأخير، منقولا عن مذكرات “نجوى”، التي تخبر فيها عن نهاية أحمد، الذي وجد ميتا في غرفته. اتسمت الرواية بلغة شعرية، ووصف عميق للعواطف الإنسانية للبطل في لحظات إحباطه وعذابه. ووظف الكاتب تيار الوعي ببراعة جعلت من الشخصية الرئيسية تبدو للقارئ وكأنها أكثر من شخصية واحدة. يشار إلى أن مصطفى لغتيري أصدر قبل هذه الرواية “رجال وكلاب” (2007)، و”عائشة القديسة” (2008)، و”ليلة أفريقية” (2010)، و”رقصة العنكبوت” (2011)، و”أسلاك شائكة” (2012)، و”ابن السماء” (2012)، و”تراتيل أمازيغية” (2013)، و”امرأة تخشى الحب” (2013)، و”حسناء إيمزرون” (2014)، و”الأطلسي التائه” (2015)، و”على ضفاف البحيرة” (2015)، و”زنبقة المحيط” (2015)، وأصدر قبلها ست مجموعات قصصية. :: اقرأ أيضاً يوميات عربية في نيكاراغوا: 10 سنوات من الشغف بالآخر الصرير قصص واقعية ترصد شراكة الكاتب مع شخصياته سلامنية بن داود كاتب بدأ رحلته مع الأدب في عقده الخامس لف ودوران فيلم اجتماعي مصري أربكه التناول الكوميدي
مشاركة :