ألوان من الفساد الإداري تعمق معاناة العراقيين اليوميةلم تقتصر الفوضى التي انتشرت في العراق على الشوارع بل عمّت الإدارات الحكومية التي تعطّلت فيها المعاملات وأصبحت لا تتقدم إلا بدفع الرشاوى أو بتدخل شخصية نافذة، دون ذلك يضيع المواطن في إثبات جنسيته العراقية أو إثبات ملكيته لعقار في غياب الرقابة الحكومية على موظفيها وتطبيق القانون على المخالفين وهم كثر.العرب فيصل عبدالحسن [نُشر في 2017/11/22، العدد: 10820، ص(20)]الإدارة متاهة يضيع فيها المواطن بغداد - المعاناة التي يعيشها المواطن العراقي بعد العام 2003 تضاعفت عدة مرات مع المعاملات في إدارات الدولة، فالكثير من الدوائر الحكومية تم حرق أرشيفها أو نهبه أو العبث به بدعوى إثبات حقوق من كان معارضا للنظام السابق أو إثبات تعرضه للتنكيل أو هضم الحقوق. المواطن العراقي يحتاج اليوم إلى تجديد شهادة جنسيته، لأنها تغيّرت عدة مرات قبل الاحتلال الأميركي للعراق وبعده، فهو مطالب بتجديدها وفق أي نموذج جديد يتم طرحه، وإلا فلا يمكنه إثبات حقوقه كمواطن أو قضاء حاجاته في شراء أو بيع عقار، أو إكمال معاملة تقاعد أو أي شأن من شؤونه الإدارية الرسمية. وعند مراجعته لدائرة نفوسه بمحافظته يخبره الموظف بأنّ إضبارته وإضبارة أسرته قد احترقت مع ما احترق من وثائق الدولة. وعندها تبدأ رحلة من المعاناة والعذاب، الذي لا يطاق إلا للقليلين لإثبات شخصيتهم كمواطنين عراقيين. وليست دائرة النفوس الوحيدة بين دوائر الدولة التي يلاقي فيها المواطن نصيبه من العذاب، فهناك لون آخر من عذاب المواطنين مع السجل العقاري، فالكثير من المواطنين الذين يراجعون السجل العقاري لمتابعة بيع عقارات لهم أو شراء عقارات لا يجدون أضابير عقاراتهم أو العقارات التي ينوون شراءها، فهي ضائعة أو محوّلة بأسماء غيرهم دون أن يعرفوا. وعليهم أن يثبتوا ملكية هذه العقارات مجددا، وعندها تبدأ رحلة ضاجة بالمتاعب مع المحاكم، والبحث في دوائر الدولة المختلفة عما يثبت ملكية المواطن لبيته أو لأرض تعود له أو لأسرته. دوامة أخرى تصيب المواطن حين يريد إثبات حقوقه التقاعدية في الدوائر والمؤسسات التي خدم فيها، وأغلب ملفات وأضابير الموظفين والعمال العراقيين بحكم المفقودة أو التالفة. جنسية مزورة قصص أغرب من الخيال تسمعها عن الفساد الإداري الذي حل في العراق خلال السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق. موظفون عراقيون أمضوا سنوات لإكمال ملفات تقاعدهم، بينما اكتشفت النزاهة قبل أيام قليلة أن أحد المتقاعدين لديه تسعة رواتب تقاعدية يقبضها بواسطة الصراف الآلي بأسماء مختلفة.يكثر بيع الوثائق المزورة في سوق مريدي في بغداد، والعاملون فيه موظفون في دوائر الدولة ويقول محمد نوري (54 سنة)، صاحب أستوديو تصوير في منطقة الأمين ببغداد لـ”العرب”، “إنَّه راجع النفوس في بغداد عام 2006 ليستخرج لابنته شيماء جنسية بغرض تسجيلها في المدرسة، ولكن موظف النفوس أخبره أن السجل الخاص به وبأسرته تم حرقه، وعليه أن يحصل على وثائق أبيه وأمه وإخوته، وأبناء عمه، لغرض إعادة تثبيت معلومات أسرته في سجل النفوس″. ويضيف نوري لـ”العرب” “استمرت محاولاتي لمدة عام في جمع أكبر عدد من الوثائق عن أسرتنا، وضاعت خلال ذلك سنة دراسية على ابنتي شيماء. وفي النهاية لم أحصل لها على جنسية، وشعرت بأنَّ ابنتي لن يتم تسجيلها في المدرسة للعام الثاني على التوالي، إذا بقيت على هذه الحال”. ويضيف أبوشيماء “سافرت عدة مرات إلى الحلة والسماوة والديوانية، لجلب أوراق ثبوتية لأحد أعمامي أو لأحد أفراد الأسرة من كبار السن.. لقد عشت مع أسرتي كابوسا من العذاب والبحث اللامجدي، لذلك اضطررت في لحظة يأس لأن أقرر، وأنا في حياتي لم أفعلها من قبل الذهاب إلى سوق مريدي (سوق كبير في مدينة الصدر ببغداد يكثر فيه بيع الوثائق المزوّرة) واشتريت لابنتي شيماء بطاقة أحوال مدنية، وأدخلتها المدرسة وهي في الرابع إعدادي الآن”. سألناه إن كان هذا التزوير سيتم اكتشافه عند دخول شيماء الجامعة، أجاب ضاحكا، “ثُبتت المعلومات التي في البطاقة المزوّرة في سجل الحكومة الرسمي من خلال دفع المال لموظف أرشدني إليه من عمل لنا البطاقة المزوّرة. وهو يعمل أيضا بشكل مزدوج في شارع مريدي، وفي دائرة النفوس، ويضع أختاما رسمية حكومية على البطاقات التي يبيعها، ولم تكلفني العملية سوى عشر أوراق (ألف دولار)”. وكان للسفارات العراقية في الأعوام 2006 وحتى العام 2009 دور مشهود في الفساد، وهي أسوأ فترة رشوة ومحسوبية لا مثيل لها مرّت على السفارات العراقية في الخارج. تم خلال تلك الفترة بيع الآلاف من الجوازات العراقية لأكراد أتراك وسوريين وإيرانيين. وقد فضح الإعلام السويدي والدنماركي والنرويجي والأوروبي بيع الجوازات العراقية لمن يشتري. ورفضت تلك الدول التعامل مع الجواز العراقي من نوع “س″ لأنَّ كميات كبيرة منه تم بيعها لمن يشتري، وهي مصدقة بأختام رسمية للخارجية العراقية. يذكر أن الجوازات العراقية صارت بعد الاحتلال الأميركي عرضة للتزوير، لذلك تطالب الحكومة بين فترة وأخرى المواطنين بإصدار نسخة جديدة من الجوازات على أمل إيقاف موجة التزوير بنسخ محكمة، فصدر نوع “بي” ونوع “ق” و”س″ وغيرها من الأنواع دون أن تضع حدا للتلاعب بوثيقة السفر هذه. ومن خلال عودة حاملي هذه الجوازات إلى العراق تمكنوا بفضل فساد إدارات الإقليم الكردي ورغبة من بعض السياسيين الأكراد في التغيير الديموغرافي لبعض المناطق التي يسكنها العرب والتركمان ومنها محافظة كركوك العراقية الغنية بالنفط، من التزوّد بوثائق السجل المدني العراقي والتي منحوا على ضوئها أوراقا ثبوتية عراقية كأكراد عراقيين.جوازات سفر ووثائق ثبوتية للبيع في السوق وثائق محروقة تقول سليمة خضر (50 سنة) من بغداد لـ”العرب” “ترك زوجي لنا بعد وفاته مسكنا في الراشدية بمنطقة الحسينية شمال بغداد بـ20 كم، وحين قررت بيع مسكني لكي أشتري بثمنه منزلا آخر في الحلة، حتى أكون قريبة من بيت ولدي الأكبر تكاتبت مع المشتري ودفع لي العربون وراجعنا طابو الحسينية، فأخبرنا موظف الطابو، وبكل برود بعد أن تطلع إلى رقم المسكن وموقعه، أنه لا توجد لديهم أي إضبارة للمسكن، فقد تم حرق العديد من أضابير منطقة الحسينية وأضبارة مسكننا من ضمنها”. وتضيف خضر، “ومن هنا بدأت معاناة العائلة، فقد استرجع المشتري عربونه، وتوقفت عملية البيع، وأنا الآن بعد سنتين من المراجعات للدوائر المختلفة، لا أزال أركض بين الطابو العامة في بغداد وطابو الراشدية، والمشكلة أنَّ البريد الرسمي الذي يبعث بين الدائرتين يُبعث بواسطة معتمد من الدائرة. وعلينا تدليل هذا الموظف، وإكرامه ما أمكن، وإلا فإنَّ أي إجراء كتابي لن يصل، ولن تصل أي إجابة عنه. مضت سنتان وأنا بعدُ لم أحصل على حقي، فمسكننا لم يعد من حقنا في أوراق الحكومة”. ويقول الباحث الاجتماعي حسين ماهود “من الأسباب الرئيسية للفساد الإداري في العراق تلك السياسية والظروف التي مرَّ بها العراق بعد الاحتلال عام 2003، فالأحزاب السياسية والدينية في البرلمان العراقي قسمت الوزارات والوظائف العليا في الحكومة إلى حصص لقيادييها، وجعلتهم موظفين في الدولة لكن بقي ولاؤهم للحزب الذي عيّنهم في مناصبهم أكثر من الولاء للدولة وتنفيذ قوانينها. لذلك عملوا كل ما من شأنه توطيد أوضاع أحزابهم على حساب القوانين وأنظمة الدولة العراقية”. ويضيف ماهود “هناك أسباب أخرى تعود إلى الوضع الحضاري للبلد، وذلك يعكسه عدم تلاؤم قوانين الدولة مع الوضع العشائري في البلاد، مما جعل الموظف العراقي يتجاوز صلاحياته ويتطاول على القوانين النافذة من أجل أفراد من عشيرته أو من أقربائه أو طائفته، ومن هنا يبدأ الفساد الإداري”. ويكمل حسين “إضافة إلى ذلك، توجد في قوانين الدولة وأنساقها نظم هيكلية قديمة لا تلبي الحاجات في الظروف الحضارية الحالية، وهذا يولد فجوة بين حاجات المواطنين الذين يحلمون بخدمة إدارية سريعة يقابلها روتين إداري مقيت يدفعهم للخلاص منه بدفع الرشوة للموظفين أو للبحث عن واسطة لقضاء معاملاتهم المُتلكّئة”. ويعزو رياض حسين (45 سنة) موظف في النزاهة ذلك إلى “أنَّه في الكثير من حالات الفساد التي تابعناها تكون بانشغال المسؤول الأول في الوزارة أو المؤسسة بأعمال حزبية أو تجارية أو انشغاله بالسفر والإيفادات إلى خارج القطر، مما يؤدي لأن يقوم موظف آخر بمسؤوليات المسؤول الأول”. ويضيف “يتعرض هذا الوكيل إلى ضغوط أكبر من طاقته من طرف مسؤولين آخرين أو من أرباب المصالح، فيجعله هذا يتجاوز الكثير من القوانين، ومصالح العمل لإرضاء هذه الجهة أو تلك. وفي الكثير من الحالات لا يخبر هذا الوكيل أو المعتمد المسؤول الأول عن هذه التجاوزات لئلا يفقد ثقته به. وفي الكثير من الحالات لا يصل إلى المسؤول الأول من المعلومات إلا ما يرضيه عن عمل وزارته أو مؤسسته”.الموظف يماطل.. لم يقبض إكرامية "سبوبة" للرزق يقول حسين “يوجد أكثر من نوع من الفساد الإداري، يتجلى النوع الأول في استغلال الروتين الإداري من قبل بعض الموظفين لجعل المواطن يرضخ لتمشية معاملته من خلال المعقّب الذي يأخذ مبلغا من المال من المواطن لتسهيل الخدمة. والمعقب بدوره يتقاسم ما يحصل عليه مع الموظفين الفاسدين. ويسمى هذا النوع من الفساد بالفساد المتفق عليه بين المواطن والمعقّب والموظف الإداري (الفساد الأبيض)، وهناك فساد (أسود) غير متفق عليه بين الطرفين الموظف، والمواطن، ويدينه كلاهما لكنهما يمارسانه، ويوجد فساد (رمادي) وهو بين هذين الفسادين، يرفضه المواطن لكنه يكون مجبرا على ممارسته لتسهيل معاملته ويديره الموظف الفاسد ولا يعتبره رشوة، لأنه برأيه مجرد إكرامية أو هدية قدمها المواطن له لتجاوز بعض الروتين الإداري الذي يؤخر مصالح المواطن ويضيع وقته، وهو لا مبرر له إداريا، لكنه ‘سبوبة’ للرزق”. ويقول المحامي رؤوف سامي لـ”العرب”، “إن قانون العقوبات العراقي المرقم 111 وملحقاته ينص على معاقبة الموظف المرتشي بالسجن لعشر سنوات كحد أقصى للعقوبة، ولكن مع هذا يوجد موظفون مرتشون بكثرة في دوائر الدولة العراقية. ويحتاج النظام الإداري في العراق إلى استراتيجية فعالة لمحاربة الفساد الإداري، ولكن قبل ذلك عليه تحقيق أفعال محددة كتوفير القضاء النزيه، وترتيب هيكلية معينة للعقوبات يكون اختيار الحد الأعلى من العقوبة بالنسبة لموظف الخدمة العامة في حالة تقاضيه الرشوة أو قبوله الوساطة”. ويضيف سامي “أما الاهتمام بالجانب التثقيفي للمواطنين فيكون بضرورة نبذ فكرة الرشوة والإكرامية والهدية لموظف الخدمة العامة، ووضع ضوابط قانونية واضحة للمؤسسات الخدمية لمزاولة الشفافية والنزاهة والمساءلة القانونية والمحاسبة، ونشر الوعي بين الناس بأن الراشي والمرتشي بنفس الدرجة من المسؤولية القانونية من المحاسبة والعقاب”. ويعتبر العراق في مقدمة الدول من حيث الفساد الإداري، وبحسب منظمة الشفافية العالمية فإن أكثر من 65 بالمئة من العراقيين دفعوا رشاوى إلى موظف حكومي أو أسهموا في توسيط متنفذ لقضاء معاملة إدارية لا تحتاج في الدول الأخرى لدفع رشاوى أو توسيط شخصيات نافذة كالحصول على أوراق ثبوتية، جنسية أو شهادة الجنسية أو بطاقة موحدة أو بطاقة السكن أو الحصول على تأييد من إحدى دوائر الطابو لبيع أو شراء عقار أو تكملة معاملة تقاعد.
مشاركة :