بقدر ما يكون التدين مأخوذا بفكرة الجماعة والانتماء إليها، بقدر ما يتجه هبوطا نحو تجريده من أقوى مقوماته المحققة لغرضه عادة ما تكبح سلوكيات الإنسان روادع تقف بينه وبين التمادي في أثرته وأنانيته. ولعل من الممكن القول بمعرفتنا ثلاثة أنواع من هذه الروادع: - رادع اقتصادي: وهو ذلك الذي يحول بين المرء وسلوك معين نتيجة التفكير في أمر الربح والخسارة المنفعيّين، فيقف بينه وبين ما قد يؤدي بحسبانه إلى خسارته أو تقليص ربحه. - رادع اجتماعي: وهو النوع الذي يثيره تفكير الفرد في صورته أمام محيطه، ويهدده تجاهله بالإضرار بتلك الصورة والواجهة الاجتماعية. - رادع أخلاقي: والمقصود به ما ينتصب أمام الشخص تذكيرا له باحترامه الداخلي لنفسه، وتفكيره بما ينسجم مع قيمه الباعثة لكوامن تقديره لذاته، وما يفترض أن يتسق مع ضميره المتعالي. يختلف الناس باختلاف طبائعهم وثقافاتهم في تراتبية هذه الروادع من حيث الأهمية والتأثير، وقد لا يختلف كثيرون حول كون الرادع الثالث هو الأرقى والأكثر سموّا، مع عدم القول بواقعية الاكتفاء به أو الرهان عليه بشكل مستقل، انطلاقا من معرفتنا بطبيعة الجنس البشري وتاريخه المليء بالتجاوزات. لذلك، نرى أن العمل في "النسق القانوني" يلجأ في حالته المثالية إلى تجاهل الرادع الأخلاقي، وعدم أخذه في الاعتبار عند سَنّ التشريعات، ويكتفي بالتركيز على استخدام الرادع الاقتصادي، واللجوء بشكل أقل إلى الرادع الاجتماعي، فلا رهان عند التقنين على ضمائر الأفراد أو نزاهتهم ورؤاهم الأخلاقية. ولكن الأمر في "النسق الديني" مختلف، فهو وإن تعامل انطلاقا من الطبيعة البشرية في اعتبار أهمية الرادعين "الاقتصادي والاجتماعي"، إلا أن خطابه الأساسي "كما هو مفترض" موجّه نحو الرادع الأخلاقي. وكما أن القوانين تكون أكثر هشاشة بانحرافها نحو استعمال الروادع الأخلاقية، فكذلك تقل فاعلية التدين عند الغض من قيمة تلك الروادع، فبقدر ما يكون التدين مأخوذا بفكرة الجماعة والانتماء إليها، بقدر ما يتجه هبوطا نحو تجريده من أقوى مقوماته المحققة لغرضه، وكذلك يحدث أيضا عندما يختزل في سلوكيات مصلحية محضة. وعلى العكس من ذلك، يكون التدين الذي يتحرك انطلاقا من قيم الفرد الذاتية، وانشغالا بتزكيته نحو الانسجام مع هذه القيم، حيث يكون بذلك أقرب إلى تحقيق غرضه وعلّته. لعل في هذا بعض التفسير لقصور كثير من أنماط التدين المعاصرة في بلوغ الدرجة المفترضة من الخيرية، وكبح الرغبات التسلطية لدى المعتنقين لها، فكثير منهم بات لا يستطيع استيعاب ما يدين به دون أن يُصَبّ له في قالب عصبوي اجتماعي يخلق منه مرآة لقياس ورعه. فيقيس مقدار تقواه بمدى تماهيه مع شعارات عصبته وأشكال سلوكها. فتنشأ من ذلك شتى الظواهر الطائفية التي تورط المصابين بلوثتها في ذلك التنافر الحاد بين ما يفترض بهم الإيمان به من قيم مطلقة، وبين ما يرتكبونه على أرض الواقع من سلوكيات بغيضة. كما يخلق هذا القالب لدى المتعاطي معه كثيرا من أشكال النفاق، فتتسع الفجوة بين ما يمارسه سرا وما يظهره لأفراد طائفته من تديّن، نتيجة عناية تلك الأنماط بالفروقات الشكلية القابلة للقياس بأعين الجماعة، وإهمالها لما دون ذلك. إذ لا فائدة ترجوها الجماعة في سبيل بقائها أو علوّها مما يكنّه الفرد في ضميره، وما يرتكبه بعيدا عن الأنظار إلا بقدر ما يفي استثماره في تحقيق سلوك مزايد لدى بعض أقطابها أو طبقاتها. كثيرا ما يتسبب هذا في أن يدفع الضعيف ثمن ورع القوي. ربما تكون أولى خطوات معالجة مثل هذه الأعراض إعادة الاعتبار إلى التدين "الفردي" المعني بالدرجة الأولى بتقوية الرباط بين المرء والحق الأسمى الذي يدين بتعبده، بعيدا عن صخب الطائفة وضوضاء المذاهب، وأن ينظر إلى علاقته بمحيطه بمرآة ذلك الرباط الخفيّ، لا أن ينظر إلى رباطه الإيماني بمرآة علاقته بمحيطه. ربما من المؤسف أن يتوارى خطاب يعيد صياغة التدين المعاصر على هذا النحو خلف ضجيج خطابات الأنماط المصلحية المتسلطة المُشاهَدة في عالمنا.
مشاركة :