الحقائق الواقعية والحقائق الشعرية

  • 3/10/2014
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: ربما يُوَصف الشعراء ولاسيما الرومانسيين منهم بأنهم أناس يعيشون في الخيال، أو في أبراج عاجية عالية، فهم أبعد ما يكونون عن عالم الواقع الذي يمثله هؤلاء اللائمون، وفي المقابل يتمدّح هؤلاء الواصفون بأنهم هم الذين يعيشون عالم الواقع بكل ما فيه من أفراح وأتراح. المشكلة في قِصَر نظر هؤلاء اللائمين، وأنهم لا يدركون من حقائق الوجود ما يدركه الشعراء. إذ إن حقائق الوجود تلك تنقسم لنوعين هما الحقائق الكلية والحقائق الجزئية، أو ما يمكن تسميته بحسب تقسيم إيمانويل كانت الحقائق الجوهرية والحقائق الظاهرية. والمدار كله في مستوى النظر لتلك الحقائق، فأنت حين تتحدث في شكل ظاهري أو جزئي عن واقع فرد أو مجموعة أفراد أو مجتمع مثلاً إنما تصف نفسك بالواقعية، ولكنك حينما تتحدث عن واقع وجوهر الإنسانية بصفة عامة، وتتصف نظرتك بالشمولية أو الكونية فإنك في نظر هؤلاء تكون خيالياً. ولكنك في حقيقة الأمر ربما تكون واقعياً أكثر منهم، إذ إن واقعيتك أكثر عمقاً وشمولاً من واقعيتهم. فحقائق الوجود العليا مثل التطور والسببية والجدلية... إلى آخره، التي يتلبس بها كل كائن حي في هذا الوجود هي الحقائق الواقعية الأكبر التي تشغل بال هؤلاء الشعراء - أو الممتازين منهم على وجه الخصوص - في حين أن جزئيات الوجود الصغيرة مثل حياة فرد أو مجموعة أو حتى جيل بأكمله هي ما يشغل بال البسطاء. المسألة كلها تدور حول عمق العقل وسعة الإدراك، والشعراء بعمق عاطفتهم وقوة تصورهم ونفاذ إدراكهم يصلون إلى هذه الحقائق، في حين أن أولئك السطحيين بضعف عقولهم وتبلد عاطفتهم وضيق إدراكهم لا يصلون إلى تلك الحقائق. وليس مثل الأمثال سبيلاً لتوضيح تلك الفكرة، فأنت حين تقرأ وصف بعض الشعراء وتصويرهم للواقع والطبيعة فإنك قد تنعتهم بالخيال الشعري الحالم. فابن الرومي مثلاً حينما يصف الطبيعة بأنها «تبرجت بعد حياء وخفر / تبرج الأنثى تبدّت للذكر». يأتي هنا دور الإنسان السطحي الذي يتعجب كيف تتبرج الأرض وتتزين وتستحيي مثل المرأة وهي الجماد الأصم؟! ولأن ضيق الإدراك منعدم الرؤية لا ينظر إلى الوجود إلا بنظرته المحدودة وعقله المغلق، لا يرى في هذا الكلام إلا هذا، أما الناظر نظرة كلية شمولية لحقائق الوجود العظمى يرى كيف تتهيأ الأرض بكل عوالمها النباتية والحيوانية والجمادية عاملاً فيها قانون التطور لكي تنتقل من حال إلى حال أرقى، يراها في سياق هذا القانون الوجودي (التطور) مثل كائن حي كلي شمولي وحدوي، يراها في سياق حقيقة من حقائق الوجود العظمى، وهي (قانون التطور العام) الذي ينظم كل جزئيات ذلك الوجود وفق إرادة إلهية حكيمة. كذلك جبران خليل جبران حينما يقول: إنما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء لا يرى السطحي إلا أنه يشبه الناس بالسطور فقط. أما الكوني والشمولي فإنه يراه في سياق حقيقة الوجود الكبرى وهي الفناء وقصر عمر ذلك الإنسان الذي لو أدرك هذا المعنى جيداً حقيقٌ به أن يخلع عن نفسه ثوب التكبر ورداء الغرور. والديوان الشعري العام للشعراء ملآن بمثل هذه الحقائق الجوهرية أو الواقعية الكونية وحسبنا ما ذكرناه، وإن كانت المسألة بعد ليست أن البعض خياليون والآخرون واقعيون، وإنما هناك من يدركون وآخرون لا يدركون.

مشاركة :