تجربتان شعريتان بين الواقعية والروحية الصوفية

  • 3/13/2014
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

عشرات المجموعات الشعرية صدرت في العام المنصرم (2013)، ولكن لم يتمّ وضعها في كفة النقد الوازنة، وكادت تقتصر على تواقيع معارض الكتب، من بينها عدد كبير في لبنان، وهو عدد يلفت الانتباه في ظلّ ما يعلو من نبرة اتهامية للشعر، ويكشف افتقارنا الى زاوية نقدية مرافقة للشعر الجديد، ذات وزن وسلطة، ينتظرها الشعراء عند اصداراتهم ويتهيبونها بين الخوف والرجاء. ومن بين هذه الإصدارات: «كيف ستنجو أيها العابر» لربيع شلهوب، و «ركلة في قرية النمل» لمحمد ناصر الدين (دار النهضة العربية- 2014)، نظراً الى أهمية هاتين التجربتين الجديدتين، على ما بينهما من اختلاف في الأسلوب واللغة والجوهر. يتكئ ربيع شلهوب على الحروف ليوحي بالإبداع، «ألف. نون. ألف» هو أول كتاباته، وهو من إيماءة قرآنية كان تلقفها ابن عربي وعمل عليها بروحية صوفية. وهذه الحروف الثلاثة لو جمعت لصارت «أنا» ولو فرقت لكانت نوناً بين ألفين. و «أنا» هنا هي الذات الأولى، فترى الشاعر يدير الفكرة الثيولوجية والميثولوجية للخلق، بالمخيلة والصورة ومحكم اللغة كما بضربة النرد: ضربة نحو أعلى وضربة نحو أسفل في جوف نون/ لتأتي تحدق في الهاوية/ وتكون صرخة الخلق المعلقة بين الوجود والعدم. هكذا يتمدد المدخل الثيو–ميثولوجي للديوان، على كلّ ردهاته وأقسامه، وتراه يتوسع بالمخيلة وبالاستعارات والسياقات المتنوعة والضربات التعبيرية المحكمة والإيقاعات المضبوطة بأوزان وقوافٍ داخلية أو مقطعية، ليس فيها من ضعف أو تكلّف، وهذا كلّه من خلال بلاغة عربية ذات روح دينية مستعادة، تُذكّر بأنّ لها سابقاً، وهذا السابق يعرفه الشاعر، ويعرفه القارئ المدقق المستنير، ولكن هذا لا يلغي براعة الضارب على الأوتار، وحذقه الفائق واستعماله حتى التطريب قوافي متماثلة في هارموني القصيدة العربية الحديثة المؤسسة على موسيقى الوزن الجديد ومفردته في التفعيلة. وهي هنا في ديوان شلهوب «فعولن»، مع جوازات سمح بها الإيقاع للشاعر، بين «فاعلن وفَعلن وفعلن»، وعلى هذا الاساس يتم عيار مقاطع الديوان بكامله... كدمدمة هادئة أو شاردة في سديم من قبيلة وليل وطرب صحراوي. وهو ما يلامس صنع التماثيل (التفاعيل) في المطلق. إنّ شاعراً شاباً في ديوانه بمثل هذه القدرة التركيبية الإيقاعية الصورية، لا بد من أن يكون قد ارتوى من تجارب سبقته في هذا الإيقاع بالذات، وهي مسألة تنمّ عن معرفة شعرية بالأدوات والمناخات واللغة، وقد اضاف لها بعداً فلسفياً بدا في الكثير من المواقع ضاغطاً على اصابعه، كاد يفلت منه أحياناً برق الومضة الشعرية، التي تكشف الغطاء بسرعة هائلة، عن الوجود، ثم تسدله، وهنا أخيراً ملاحظتان لتقالا: الأولى: ارتفاع اصوات وصور كورس الرعب في فصول الديوان وردهاته المتتالية. ما سمّاه هو «فراديس مقلوبة» مرة، و «هوادج مقلوبة»، مرة أخرى. يقول: «سأحتاج كيساً كبيراً /لأفرغ ما يتفاقم في جسدي / من فتافيت آلهة / وفراديس مقلوبة / تحت شمس الضحى اليانعة». فمشروعه الشعري وإن كان دينياً اسطورياً، إلا أنه يتدمر بالرعب. إن المتاهة الوجودية او تغريبة الشاعر، ضغطت كمعنى وجودي فلسفي على الحقل اللغوي الواعي له، وهو الحقل المتكون من تجربته الثقافية وقراءاته، فاستجابت هذه لتلك في العبارة والصورة والمناخ... ولو جاز لي ان ارى مآل هذه التجربة الشعرية الفتية لربيع شلهوب، لرأيتها تتلمس صورتها المقبلة في حقول اللاوعي اللغوي، الحقول الـشاسعـة وبلا حـسـاب لـلشـعر.   «ركلة في قرية النمل» إنه الديوان الثاني للشاعر محمد مهدي ناصر الدين (1977)، يصدر له عن دار النهضة العربية (2014)، بعد اول ديوان «صلاة تطيل اللوز شبراً» عن الدار ذاتها (2012). ويقدم ديوانه الجديد تجربة شعرية مغايرة لديوان شلهوب، في اللغة والإيقاع والأسلوب، اي في الجوهر الشعري. من قراءة نصوص ناصر الدين وقصائده، السبعين، يترسخ بين يديك مفهوم ما للقصيدة الجديدة، ويلتبس مفهوم الشعر. فالحديث عن الشعر أو «الشعرية» poeticité، حديث متشعب وإشكالي، من أرسطو وأفلاطون إلى بارت وفوكو. ولعلّ أقصى الحيرة في تعريف الشعر هو أن نقول إنه سر يبحث عن سر... فمع الشعر يتبدّد الكلام، أما مع القصيدة فيتركز ويكاد ينحلّ في تقنياته، في حيله في الكلمات وترتيبها، وفي قدرته على ان يكون مفارقاً عن سواه من فنون كلامية أو سمعية بصرية اكتنفته من كل صوب، وعبارة إشارية تعهدها وعممها الحقل الإلكتروني و «الفايسبوك»، مع ما رافقها من برقية وبداهة او ارتجال. من القصيدة الاولى لناصر الدين «في البدء كان الحلم»، تستوقفك اللغة، باعتبارها كما يقول، سمساراً ينقل الشعر من حال الحلم إلى حال القصيدة. فهو يبدأ من معضلة تتكرر على امتداد النصوص، وإن اختلفت من نص إلى آخر، وهي معضلة «ولادة القصيدة « ومخاضها وانتقالها من حيز الحلم (الفكرة) إلى حيز القصيدة. كيف ذلك؟ وكيف يصاغ النص؟ وإذا كانت القصيدة هي إخراج الشعر من جوف بداءاته الأولية، في الأحلام والأفكار والمعاني، إلى معادله الموضوعي في اللغة، فلماذا لا يكون شعر خام، أول، بلا وسائط؟ وكأنه يرغب في إزالة الفوارق بين الشعر والقصيدة. يقول في نص بعنوان «جريمة»: «طافت المدينة بالبوتكس/ بالخط الرديء للكتبة والمخبرين / الشحاذ أخرج قبعته / تدحرجت الجمجمة / لم يعد القتل افتراضياً / نادلة المقهى / تحت المياه المالحة / نظفت المسدس». أرجح أن محمد ناصر الدين، على رغم إسناده الطاقة الشعرية إلى الحلم، يعود في القصائد ليلجم هذا الإسناد، أو يخونه، فلا يترك الطاقة الهذيانية للحلم تتكلم باللغة، بل يجعل النص الشعري سؤالاً في الثقافة، وهذه الثقافة ذات مرجعيات غربية، حداثية وما بعد حداثية، ومتنوعة في الفلسفة والعلوم والرواية، بحيث نلاحظ ضغطاً مرجعياً غريباً على نصوصه، يصل إلى حدود التسمية والتفصيل. نجد على سبيل المثل إحالات إلى تريستان وإيزوليت، وآينشتاين وهرقليطس، وسارتر وسيمون، وأرخميدس وصادق هدايت... هي مروحة واسعة من المرجعيات المتنوعة مع انعدام يكاد يكون مطلقاً لأية مرجعية عربية او إسلامية، أو روائح محلية للمكان والزمان العربيين، بل اللبنانيين، بل الجنوبيين، باعتبار الشاعر من مواليد قرية سُجُد، من قرى جبل الريحان في الجنوب اللبناني، ما انعكس على جوهر التجربة الشعرية ولغة القصائد وشكلها. في الختام، ملاحظتان لنا على هذه التجربة اللافتة: الأولى تتعلق بمرجعيات القصيدة، وأحادية هذه المرجعيات. ولعلّ قراءات عربية مشرقية آتية تزيد في غنى تجربة الشاعر او تكمل له جناحي التجربة. أما الثانية فتتعلق بتقنية الأداء الشعري، وهو ما نسميه «صورة القصيدة»... فإنّ أهم ما في التجربة الشعرية هو إخفاء مرجعياتها الفكرية والثقافية، والاكتفاء بتحويلها إلى إيماء أو لمح أو إشارة... وهذه القدرة على الإخفاء والتحويل، شبيهة بقدرة النحلة على تحويل رحيق الزهور المتنوعة إلى نقطة نوعية من العسل. هذا ما يقع عليه الشاعر ناصر الدين، في مقاطع او قصائد متفرقة يبلغ فيها التحويل أوجه في التجريد، كقصيدة «الفراغ» وهذا نصها: «المرايا الواسعة / أكثر الممتلئين بالغياب».

مشاركة :