«أورفيوس» لمونتفردي: فن الأوبرا يبدأ هبوطاً الى الجحيم

  • 3/10/2014
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي «إن ما ينحو اليه عملاي «آريانا» و «أورفيوس» هو تقديم فن موسيقيّ يتحدث فيه الأشخاص على المسرح وهم يغنون بدلاً من أن يقولوا كلامهم في شكل عاديّ». هذه العبارة التي أوردها الموسيقي الايطالي مونتفردي في رسالة كتبها العام 1616، تعتبر الاشارة الأولى والأكثر دلالة على ولادة فن جديد في ذلك الحين، هو فن الأوبرا. ومن هنا تعتبر «آريانا»، ولكن أكثر منها «أورفيوس» اللتان لحنهما مونتفردي أوائل القرن السابع عشر، اثنتين من أولى الأوبرات التي كتبت في تاريخ الموسيقى، وبالتالي يعتبر كلوديو مونتفردي أبا الأوبرا من دون منازع، حتى وإن لم يكن هو على مرّ القرون التالية الإسم الأكبر من عالم هذا الفن الشامل الذي سيرتبط، أساساً، ببلده ايطاليا وبألمانيا بصورة خاصة، وإن كانت شعوب كثيرة ستعرفه من طريق مبدعين فيها خاضوا غماره، وصولاً الى القرن العشرين الذي تفجرت فيه فورة الأوبرا وارتبط هذا الفن بفن السينما، لكن تلك حكاية أخرى. غير اننا إذ نقول هذا نقلاً عن مؤرخي فن الأوبرا، سنبادر الى التحديد بأن هذا الفن الذي نشير اليه هنا، إنما هو الفن كما بات يعرف منذ ايام مونتفردي ويقدم تقريباً على الشكل الذي لا يزال يقدّم عليه حتى يومنا هذا. ولكن من دون ان ننسى أن فن الغناء المسرحي - وربما تحديداً في الشكل الذي عرّفه مونتفردي به في العبارة الواردة اعلاه - لا يمكن بأية حال اعتباره من ابتكاره، بل قد يذهب بنا التحليل الى القول إن فن الكلام الممثَّل والمغنّى، يعود الى الأزمان الموغلة في القدم... ولعله قديم قدم الشعر والطقوس الدينية نفسها، إذ نعرف ان السومريين واليونانيين من بعدهم، حين وضعوا أشعارهم الدينية وغير الدينية، انما وضعوها شفاهية وكان الشاعر يلقيها مع مصاحبة موسيقية وغالباً مع كورس وربما بمشاركة أصوات اخرى في بعض الأشعار الروائية. صحيح ان هذه لا يمكن ان تكون الأوبرا بالمعنى الحرفي و «الحديث» للكلمة، لكنها ليست بعيدة كثيرا منها... غير ان ما نتحدث نحن عنه هنا إنما هو الأوبرا بالمعنى المحدد، تلك التي يمكن مونتفردي ان يزعم انه هو «مبتكرها». > ومن هنا، فإن الحكاية بالنسبة الينا هي تلك التي بدأت، مع مونتفردي، الذي كان قبل ابتكاره الفن الجديد، يكتب الكثير من المادريغالات - التي يغلب عليها الطابع المدني -، والأوراتوريو - الذي كان يغلب عليه الطابع الديني -، وهي على اية حال، أعمال شبه أوبرالية يكتفي فيها بالتلاوة الموقعة للنصوص، ويغيب عنها البعد المسرحي بشموليته. ومع هذا، يمكن القول ان مونتفردي لم يطلع من العدم، حتى في بيئته المحيطة المباشرة وفي زمنه. فهو كان شاهد أعمالاً تقترب من الأوبرا، من إنجاز أسلاف له كبار منهم رينوتشي وجاكوبو بيري وإميليو دي كان لييري، قبل أن يوسع هو الدائرة ويكتب «أورفيوس». مع هذا العمل «تكلمت الموسيقى أخيراً»، كما يقول المؤرخ الموسيقي اميل فويلرموز «تكلمت لغة مباشرة، مقنعة ومؤثرة» وأصغى الجمهور الى ما تقوله بذهول. ولعل أجمل ما في هذا العمل الأول هو أن مؤلفه الموسيقي، الذي لحنه انطلاقاً من اقتباس حققه ألساندرو ستريدجيو، للأسطورة الاغريقية القديمة، لعل أجمل ما فيه هو أن مونتفردي مهّد فيه للأحداث بـ «مقدمة» (برولوغ) تعلن فيها شخصية تمثل «الموسيقى» (بصوت نصف - سوبرانو) عن موضوع الأوبرا وطرافتها، وكذلك عن التأثير الهائل الذي تتركه الأصوات في الأرواح البشرية. وهكذا، منذ البداية، حدد مونتفردي، وعملياً، غايته. وبدا الى ذلك وكأنه في شكل مبكر جداً يستخدم اسلوباً يقرب من «تغريب» بريخت. غير أنه في الوقت نفسه، لم يكن يفعل اكثر من انه استعاد تقاليد المسرح اليوناني القديم الذي كان فيه كورس يقوم بهذه المهمة نفسها وغالباً بأشعار مرتّلة او مغنّاة بمصاحبة آلة تشبه الربابة. > وبعد تلك المقدمة التمهيدية التعليمية، كانت تتوالى الأوبرا نفسها في ثلاثة فصول، تروي جميعاً تلك الحكاية التي تبدأ قرب معبد حيث يروي رعاة كيف أن أورفيوس نجح في الاستحواذ على فؤاد اورديديس. ويظهر إثر حديث الرعاة العاشقان وهما يتجاوبان مع حديث الرعاة قبل أن يتوجهوا جميعاً الى المعبد كما سنفهم على الفور، وذلك لتقديم صلوات الشكر الى الآلهة تقديراً لسعادة التي يعيشون فيها. ولكن في مشهد تالٍ حين يكون اورفيوس إثر ذلك غارقاً في ذكريات جزلة تذكّره بحكاية غرامه الهانئة وبكيف بدأت هذه الحكاية، تصل الى مكانه سيلفيا ناقلة إليه خبراً مأسوياً مفاده أن حبيبته أوريديس قد قضت بلدغة أفعى فيما كانت تقطف الزهور. على الفور يغمر اليأس فؤاد أورفيوس الذي لشدة حزنه ولإدراكه ان لا حياة له من بعد حبيبته الراحلة، يقرر على التو أن يتوجه للبحث عن حبيبته في مملكة الموتى. ونراه بالفعل ينطلق في رحلته حتى يصل ملهوفاً الى ضفاف نهر ستيكس الذي يفصل ملكوت الأحياء عن مملكة الموتى ومعه صديقه «الأمل» وقيثارته. غير أن حارس مملكة الموتى شارون لا يسمح له بالمرور ويبدي أذنين صماءتين إزاء موسيقاه وتوسلاته وتدخل «الأمل». ولا يكون امام اورفيوس هنا إلا أن يتوجه بالتضرع الى الآلهة بحيث ينجح في اقناعها بأن تجعل شارون يغطّ في نوم عميق. وهكذا يعبر أورفيوس النهر ويصل الى عمق مملكة الموتى حيث لا يلبث ان يعثر على حبيبته ويتمكن من استعادتها، وهو امر تمكّنه منه الآلهة هناك ولكن شرط ألا يدير وجهه ليراها قبل وصولهما الى الأرض، اي الى مملكة الأحياء متجاوزين النهر الفاصل. ومن الطبيعي ان أورفيوس يستجيب الشرط، لكنه وهما في الطريق وقد شارفا على الوصول الى النهر يحدث منه من دون ان يتنبه الى ذلك، ان يلتفت اليها فتعود أدراجها، عقاباً له، الى مملكة الموتى، تبعاً لما كان قد اشتُرط عليهما. وهكذا، من جديد إذ ادرك أورفيوس الخطأ الفادح والقاتل الذي اقترفه، يبدأ بالبكاء - غناءً طبعاً - من جديد، وتكون النتيجة هذه المرة أن يتدخل ابولون ولكن ليأخذه ويصعد به الى أعالي السماء حيث يمكنه ان يبقى هناك الى الأبد، وأن يتأمل وجه محبوبته. > كما اشرنا، كانت «أورفيوس» أولى الأوبرات، بالمعنى الحرفي والعلمي للكلمة - او واحدة من أولاها إن نحن اردنا ان نكون اكثر دقة -. على اعتبار انها هي التي أسست أيضاً لنوع من استخدام الأساطير اليونانية ذات الدلالات الرمزية، في مجال الحديث عن صراع الانسان مع مصيره والقوى التي تتجاوزه قدرةً واتساع أفق. واللافت هنا أن يكون باحثون كثر قد رأوا ان استخدام الأساطير اليونانية في فن الأوبرا، انما أعطى تلك الأساطير بعداً جديداً: أنْسَنَها عبر استخدام موسيقى جديدة تصل الى عمق وجدان المستمعين. وفي هذا الاطار، معروف أن مونتفردي قد استخدم أساليب وتلاوين موسيقية جديدة حيث قسّم العمل الى مقطوعات تعزف بالآلات، من خمسة وسبعة وثمانية اجزاء، والى «مونوديات»، وأغانٍ ثنائية وثلاثية وخماسية (هنا بواسطة كورالات). وهكذا عبر هذا الاستخدام، تمكن مونتفردي من تحقيق حلم كان يداعب الموسيقيين منذ زمن بعيد. > ولد كلوديو مونتفردي في كريمونا الايطالية في العام 1567، لأب طبيب، وبدأ حياته الموسيقية منذ طفولته حيث انضم الى كورال الكاتدرائية الرئيسة في مدينته. وكان في الخامسة عشرة حين كتب أول أعماله الغنائية: أناشيد لثلاثة أصوات، بعد ذلك خاض غمار «المادريغال» - سلف الأوبرا - وحقق أعمالاً عدة، واشتهر وصار يدعى الى القصور، وبدأ يكتب أعمالاً دينية ستخلّد بعد ذلك. وفي تلك الأثناء، انكب على ابتكار فن الأوبرا الذي أجاد فيه، وظل يمارسه حتى رحيله عام 1643. ومن أشهر أوبراته: «آريانا» و «حفل الجاحدين» و «معركة تانكريد وكلورندا» و «تتويج بوباي» و «عودة أوليس الى الوطن»، اضافة الى «أورفيوس» التي افتتح بها فناً سيكون من أجمل الفنون وأشهرها.

مشاركة :