في خريف عام 1600 وضمن إطار الاحتفالات بزواج الملك الفرنسي هنري الرابع بماريا دي مديتشي، قدم جاكوبو بيري، أحد المؤسسين الكبار لفن الأوبرا الذي لم يكن قد حمل بعد هذه التسمية، حكاية درامية موسيقية في ستة فصول وتمهيد تحت عنوان «يوريديس». يومذاك كان من بين الحضور الدوق دي مانتوفا، راعي الموسيقي مونتفردي الذي كان قد بدأ في ذلك الحين يخوض تجارب «أوبرالية» ميلودرامية كانت هي ما أدى به الى التأسيس الحقيقي لفن الأوبرا، فما كان من الدوق المتنور لفرط إعجابه بعمل بيري، إلا أن طلب من مونتفردي أن يؤلف شيئاً على غراره. وبالفعل شرع الموسيقي المؤسس يومذاك في عمل من الغريب أنه لن يكتمل قبل ما لا يقل عن أربعة عقود وسيكون واحداً من آخر الأعمال التي لحنها صاحب «أورفيو» التي تعتبر عادة أول أوبرا في التاريخ بالمعنى الحديث للكلمة، كذلك سيكون من أعمال مونتفردي النادرة التي حفظت ألحانها مدونة، الى جانب «عودة أوليس الى الوطن» علماً بأن هذه الأخيرة أُنجزت في عام 1640 فيما أُنجزت «تتويج بوبيا» في العام 1642 أي قبل عام واحد من رحيل الموسيقي عن ستة وسبعين عاماً بمعنى أنه كتب تلك الأوبرا المتأخرة زمنياً وهو في الخامسة والسبعين. > في مثل ذلك العمر المتقدم، كان يمكن عملاً فنياً من ذلك النوع أن يبدو ضعيفاً يعكس تعب مؤلفه، لكن الحقيقة هي أن «تتويج بوبيا» أتت على العكس من ذلك تماماً، الى درجة أن كثراً من مؤرخي فن الأوبرا يعتبرونها أكثر أعمال مونتفردي نضجاً وقوة ناهيك بأنها أتت حافلة بالابتكارات والتجديدات في فن كان هو بدوره جديداً. وكأن مونتفردي شاء لهذا العمل أن يكون وصيته الأخيرة وملخصاً لكل إبداعه الاستثنائي في فن سيعتبر هو مبتكره ومجدد الموسيقى الخاصة به الى أبد الآبدين، ناقلاً إياه من حيّز الأوراتوريو والميلودراما الى حيز المسرح المتكامل المموسق ضمن إطار قواعد يمكن القول إنها ظلت هي السائدة طوال قرون أو على الأقل حتى مجيء فاغنر في ألمانيا وفردي في إيطاليا. بيد أن هذه حكاية أخرى. > حكايتنا هنا إذاً، هي حكاية هذا العمل الذي عرف مونتفردي كيف يمزج فيه بين الدراما الحميمة التي تكاد تكون عائلية وبين مسرح المناورات والصراع على العرش من ناحية ثانية، والعواطف المختلطة من ناحية ثالثة. ومن الأهمية بمكان في هذا السياق أن نجد المؤرخ بانين يقول عن هذه الأوبرا أنها «عمل فني قائم في ذاته بشكل مستقل عن أي تأمل خارج عنه (...). إنه استعراض ينتشر فوق الخشبة وكأنه لوحة عملاقة تعكس كل ما كان فن تلك المرحلة قد توصّل اليه أو يتوق الى أن يتوصّل إليه، وهو يلمع بتركيبته الدلالية: ينتمي الى زمنه، لكنه يتجاوزه. ومطبوع بروح ثقافة العصر، لكنه يسمو عليها ويهيمن بتركيز شديد على شاعرية كونية». > صحيح أننا إن شاهدنا هذه الأوبرا اليوم، قد لا نوافق كثيراً هذا المؤرخ على ما يقول، لكننا سنفعل بالطبع إن نحن رأيناها من منظور ذلك الزمن المبكر ومن منظور الاستخدام الذي جعل مونتفردي يخصّها بكل تلك التجديدات الموسيقية والتوزيعية التي كان قد حلم بها لأعمال سابقة له، لكنه امتنع عنها لأسباب أو لأخرى. هنا طابق بين الانسيابية الموسيقية والمواقف العاطفية بشكل تبدو فيه الموسيقى أقرب الى أن تكون معبّراً سيكولوجياً ليس عن الأحداث وإنما عن الأحوال العاطفية، على الأقل للشخصيات المحورية. > في مقدمة تلك الشخصيات طبعاً الحسناء بوبيا التي يغرم بها الإمبراطور نيرون الى درجة لا يتوانى معها عن زيارتها بشكل متواصل في منزلها، غير محاول أن يخفي هياماً بها كان يبدو متناقضاً تماماً مع شخصيته القاسية الدموية، وغير مبال بما بدأ يشعر به أوثون أحد نبلاء الإمبراطورية والعاشق المولّه ببوبيا من غيرة وحقد تجاه ذلك كله. ذات يوم، بعد زيارة غرامية قام بها نيرون الى بيت معشوقته نسمع هذه تسر الى آرنالتي برغبتها التي باتت جامحة في أن تصل، بصورة شرعية الى عرش الإمبراطورية. وهنا تنصحها آرنالتي بتوخي أعلى درجات الحذر بالنظر الى أن أوكتافيا، زوجة نيرون القوية والتي لا تتردد أمام أي فعل إن وجدت أن ثمة ما يمسّ حياتها أو مصالحها، عالمة بما يحدث وتتحيّن الفرص للانقضاض عليها. والحقيقة أننا نحن معشر المتفرجين نكون قد عرفنا في ذلك الحين أن أوكتافيا، على رغم مظاهر القوة الخارجية التي تبديها، تبكي بكاء حاراً في كل ليلة منذ أعلمها نيرون من دون أدنى حذر أو شفقة أنه عازم على طلاقها والاقتران ببوبيا. مهما يكن، إذ يعلم العجوز الحكيم وناصح الملك، الشاعر سينيكا بهذا كله، يجرؤ كعادته على السعي لتهدئة الأمور، وهكذا نراه يقصد أوكتافيا طالباً منها أن تهدأ وأن يكون لديها من الشجاعة والثقة بالنفس ما يمكنها من أن تجابه الإمبراطور وتنصحه بالتخلي عن المشروع ككل، أولاً لأن مثل هذه الأمور لا تليق به وثانياً لأن ارتباكاً كبيراً سوف يسود أجواء الإمبراطورية. لكن نصائح سينيكا تذهب أدراج الرياح، بل على العكس، إذ يعلم نيرون بمواقف شاعره وحكيمه المفضل تبدأ الشكوك تساوره بأن سينيكا يحدث تأثيراً في زوجته فيأمره بأن ينتحر. وطبعاً ينتحر سينيكا وسط هالة من الاعتزاز بالنفس معبّراً عن فرحه لنهاية تأتيه على يده بعدما قال كلمته. وفي اللحظة نفسها والمكان نفسه، في لعبة درامية موسيقية بديعة ينطلق نيرون منشداً هيامه المراهق ببوبيا، بالتوازي مع نشيد سينيكا في نوع من طباق موسيقي سوف يزدهر بقوة عند بدايات القرن العشرين. > في الوقت نفسه، وإذ يئست أوكتافيا عن ردع زوجها الإمبراطور عن مخططاته الغرامية، تلتقي أوثون وتتآمر معه لقتل بوبيا نفسها. بيد أن دروسيللا المغرمة من ناحيتها بأوثون تنصحه بأن يكون حذراً بل تعيره عباءتها كي يرتديها خلال قتله بوبيا كي لا يتعرف اليه أحد. وبالتالي، حين يخفق أوثون في مسعاه ويعجز عن قتل بوبيا، يعتقد الجميع أن دروسيللا هي الفاعلة ويأمر الإمبراطور بالقبض عليها حاكماً عليها بالموت. وهنا يظهر أوثون ليعترف أنه هو الفاعل، فيأمر الإمبراطور بنفيهما معاً ثم يطلق أوكتافيا طارداً إياها من روما. وبعد ذلك بأيام، يتم تتويج بوبيا التي تدخل الى المدينة والقصر الإمبراطوري متوجة مظفرة في مشهد ختامي رائع يشهد تصفيق أعضاء مجلس الشيوخ والشعب للإمبراطورة الجديدة. > على هذه الحكاية التاريخية، إذاً، بنى كلاوديو مونتفردي آخر الأوبرات الكبرى التي وضعها خلال حياته مستقياً إياها من التاريخ، مقابل أعمال كثيرة كان هو وغيره من كبار الموسيقيين قد وضعوها آتين بها من عالم الأساطير. ومن هنا اتسام هذا العمل بقسط من نزعة واقعية مسرحية بدت معها الموسيقى أشبه بتلك التي توضع في أزماننا هذه للأفلام العاطفية الكبيرة وتسمى «موسيقى تصويرية». ومن الواضح أن هذا التجديد الذي خرج به مونتفردي تماماً من عوالم الموسيقى الدينية التي كانت، في أحسن أحوالها، نوعاً من تتال بين الأداء الغنائي والأداء الموسيقي، الأوركسترالي غالبا، هذا التجديد قفز بفن الأوبرا قفزة كبيرة الى الأمام وجعله فناً مستقلاً في ذاته. > وبالتالي، إذا كان معروفاً دائماً أن كلاوديو مونتفردي (1567 - 1643) هو «مؤسس» فن الأوبرا تحديداً عبر «أورفيو» (1607)، فلا بد من القول هنا أن التثوير الأول الذي طاول هذا الفن كان بعد ذلك بنحو أربعة عقود على يد الموسيقي نفسه في هذه الأوبرا التي ستظل تفرض قواعدها الصارمة طوال ما لا يقل عن ثلاثة قرون تالية. ومونتفردي الذي وُلد ابناً لطبيب شهير في البندقية التي سيموت فيها بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن، بدأ حياته الفنية منشداً وعازف أرغن ليتقلب بعد ذلك على العديد من الآلات قبل أن يدرس الطباق ثم التأليف ويشرع في تلحين الأناشيد الدينية وأنواع متعددة من الأوراتوريو، حتى الوقت الذي وجد أن في إمكانه أن ينتقل الى الأعمال الدنيوية، وذلك مع إطلالة القرن الجديد في العام 1607 حين قدم «أورفيو» للمرة الأولى فولد بها على يديه فن الأوبرا بالمعنى الذي نفهمه اليوم.
مشاركة :