النسخة: الورقية - دولي منذ استقلالها عام 1991، اثر انفراط عقد الاتحاد السوفياتي، كرت سبحة الأزمات في أوكرانيا. وجذور الاضطراب في هذا البلد تعود إلى ثقل قرون مضت. فمنذ سعى هذا الإقليم إلى إرساء دولة كانت له بالمرصاد قوتان نافذتان، بولندا في مرحلة أولى قصيرة ثم روسيا لمرحلة طويلة. ففي القرن السادس عشر، وجدت أوكرانيا نفسها في مواجهة دولة بولندا النافذة يومها وممثلة الحداثة الكاثوليكية في هذا الجزء من أوروبا. وفي القرن السابع عشر، بدأت روسيا تتخفف من أثقال مشكلاتها وتبسط نفوذها في الجوار. فقضمت أجزاء من الأراضي الأوكرانية وضمتها إليها. ومع انهيار بولندا وتقاسم الامبراطوريات المجاورة أرضها، اندثر حلم أوكرانيا المستقلة طوال أكثر من قرنين. وانفطرت أوكرانيا جزءين، وأُلحِق الجزء الأوسع بالامبراطورية القيصرية والجزء الأصغر بالامبراطورية النمسوية التي توسعت في 1867 وعرفت بالامبراطورية النمسوية- الهنغارية. ولم تبصر دولة أوكرانية النور سوى بعد الثورة الروسية، ولم تعمر طويلاً. كانت دولة هشة تنهشها الاضطرابات والفوضى، فتشظَّت 4 أجزاء تقاسمها البولشفيون والبولنديون والرومان والتشيكوسلاف. وفي الأقاليم الواقعة تحت سيطرة القوزاق، أبصرت النور لغة أوكرانية وكنيسة أرثوذكسية مستقلة عن بطريركية موسكو وبرز أدب أوكراني، وتبلورت رموز هوية أوكرانية صلبة لم ترتقِ إلى دولة فعلية. والشعور بالانتماء إلى أوكرانيا برز في وقت مبكر، وتزامن مع شعور بالتمايز عن الجماعات الأخرى والانتماء إلى جماعة ضاربة الجذور في الأراضي الأوكرانية وفي الإرث الديني. لكن هذا الشعور لم يخرج من دائرة مشاعر الانتماء إلى الدائرة السياسية. وكان الجسر إليه اللغة التي ولدت أعمالاً جميلة لا يستخف بها على رغم سياسات «البَولندة» (فرض الطابع البولندي) القسرية و «الروسنة». ومنذ القرن الخامس عشر، كانت الأراضي الأوكرانية نهباً لضغوط قوى الجوار. فالبولنديون فرضوا لغتهم على السكان، ونشروها اثر استمالة النخب التي تبنت لغة القوة الظافرة والسلطة. وانتهجت روسيا سياسة أكثر عنفاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على وقع حظر اللغة الأوكرانية في الإدارات العامة وإغلاق المدارس. وأنكر الروس وجود هذه اللغة. في 1596، تحول الجزء الغربي من أوكرانيا، وفي غاليسيا ومدينة لفيف على وجه التحديد، من الأرثوذكسية إلى كاثوليكية تقر بسلطة الفاتيكان، لكنها تبقي الطقوس الأرثوذكسية. وبرز تباين بين هذه المناطق وأوكرانيا الأرثوذكسية. وفي نهاية القرن الثامن عشر، اندلعت الثورة الفرنسية وذاع الفكر القومي في أوروبا ووسطها خصوصاً، وساد التوق إلى دول مستقلة. لكن أوكرانيا كانت منقسمة إلى منطقة روسية وأخرى نمسوية اثر انفراط عقد بولندا وذواء دولتها في الامبراطوريات المجاورة. والشطر الراجح منها كان في عهدة الروس وحكمهم القاسي، وإثر محاولات تمرد أوكراني في القرن السابع عشر، انتهجت روسيا سياسة نقل السكان، خصوصاً القوزاق منهم. وساهمت السياسة هذه في تعثر عملية بناء الدولة في أوكرانيا. وعلى رغم أن غيرها من دول المنطقة كان نهباً للقوى المجاورة، ترك الماضي ندوباً بالغة في أوكرانيا. فبولندا، على سبيل المثل، كانت مستقلة لمدة طويلة، وسادت اللغة البولندية والمؤسسات البولندية. وكانت طبقة النبلاء في بولندا واسعة، والكنيسة نافذة والدولة راسخة منذ أعوام طويلة. وكانت بولندا امبراطورية في مرحلة ولو قصيرة، لكن أوكرانيا قُسِّمت جزءين، وحرمت من نخبها القوزاقية، ولم يتسن لها يوماً شد عود طبقة النخب وبناء دولة. وطوال القرن التاسع عشر، توسل الروس بالفلاحين الأوكرانيين في مواجهة ملاك الأرض البولنديين. وانتهجت النمسا سياسة منفتحة على الأوكرانيين وليبرالية، وفي المنطقة الواقعة تحت سيادتها، وسع الأوكرانيين النطق بلغتهم، وتدريسها في جامعة لفيف، وهذه ارتقت القلب الأوكراني النابض، على رغم أن مدينة لفيف كانت يومها يهودية وبولندية، وكان الأوكران فيها أقلية. والماضي يرزح بثقله على أوكرانيا، فهي عانت مجاعة فظيعة في 1932-1933 ألمت بها في العهد السوفياتي الستاليني، وراح ضحيتها 3 ملايين شخص فارقوا الحياة. والمجاعة قلّصت طبقة الفلاحين، وتركت ندوباً في الجسم الأوكراني، وتزامنت مع حملات قمع ستالينية للنخب. فستالين لم يستسغ شعور المسؤولين الأوكرانيين بأن ضيماً لحق بجمهوريتهم الغنية بالقمح والحديد والفحم ونواة صناعة الصلب والفولاذ، حديثهم عن مصالح وطنية. لم يحتمل ستالين مثل هذا الكلام، فأصلى العنف والقمع الأوكرانيين. وفي 1991 أقبلوا على اختلاف انتماءاتهم، على التصويت بنعم للاستقلال. وبرزت تباينات في نسبة التصويت في خاركوف (شرق) وأوديسا (في الجنوب) ولفيف (غرب) وكييف (في الوسط). وفي الجزء الشرقي، غلب شعور بالضياع على الناس، فهم فقدوا بوصلة توجههم اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، واحتاجوا إلى حضن يضويــهم. يـــومها كان خطاب المسؤولين الأوكران معـــتدلاً ويرص صفوف الأوكرانيين. وثمة فرق واضح بين مَنْ صوَّت في الغرب لمصلحة استقلال كان وقتاً طويلاً حلماً جميلاً ومن اقترع للاستقلال بسبب غياب بديل، لكنهما اجمعا على وضع الآمال في بناء دولة ما بعد سوفياتية. يجتمع الأوكرانيون اليوم في ساحة الاستقلال على اختلاف مشاربهم، وثمة شعور بوحدة مصير يجمعهم، وهم يناضلون معاً ويقضون معاً. وبدا أن التباينات الموروثة من الماضي تذوي من غير أن تتبدد. وقد تقيض الحياة لأوكرانيا جراء إجماع أبنائها على النفور من سياسات فلاديمير بوتين. فهذا الإجماع قد يشد أواصرهم، والأوكرانيون لا يرغبون في أن يلقوا مصير الشيشان ويكونوا تحت سيف السلطوية الروسية. * مؤرخ، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 22-23/2/2014، إعداد منال نحاس
مشاركة :