كتب الأستاذ هاشم صالح في جريدة الشرق الأوسط، العدد 14296، الخميس 18/1/2018، مقالًا مطولًا تحت عنوان «المفكر الفرنسي هنري پِنا رويز يجري حوارًا خياليًا مع صاحب (رأس المال): ما رأي كارل ماركس بأحوال العالم اليوم؟»... تنطلق كلمات كاتب المقال من واقع ثورة التواصل الاجتماعي بكل أدواتها تحت قبة الأنترنيت، ويبدأ المقال بهذه الكلمات «تخيلوا ولو للحظة أنه كان يوجد إنترنت وفيديو وفضائيات في عصر كارل ماركس...»، فمع انطلاقة كلماته في المقال ولكارل ماركس حضور يتسم بالأهمية والاهتمام، ويعرج بعد ماركس على سقراط وأفلاطون وأرسطو... وفي هذا المقال يعبر صراحة أنه غير معجب بماركس ولا بفكر ماركس، لسبب بسيط وهو المنحى المادي البحت لفكر ماركس، بينما هو يمجد الفكر الذي يتسم بالمثالية والروحانية مثل الأفكار التي يطرحها فولتير وكانت، فالمسافة بينه وبين فكر ماركس هي نفس المسافة بين المثالية - الروحانية والمنهجية المادية، رغم أن مادية كارل ماركس هي منهجية في الفكر وليس انجذابا وانغماسا في مادية المادة بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي، ورغم المنهجية المادية في الفكر والتحليل عند ماركس، إلاّ أن المبادئ التي يصيغها بهذه المنهجية المادية تنبذ السلطة المادية التي تنشئها الرأسمالية بفعل تراكم رأس المال في العملية الإنتاجية وما يصاحب ذلك من علاقات إنتاجية غير متكافئة مع القوى المنتجة، ويكشف ماركس أن هذا التراكم المادي لرأس المال هو ذاك الفيض من القيمة التي يسلبها الراسمالي من القوى العاملة، فيبدو مع هذه الحقيقة أن المفكر هاشم صالح، كإنسان، يقف في الخندق المناقض، وليس المخالف، مع أفكار كارل ماركس التي تدعو الى النضال ضد الظلم الذي يتشكل من آلية الانتاج الرأسمالي، وإلاّ فإن المفكر المعروف هاشم صالح ينتمي فكريًا الى المد التنويري الذي سبق الثورة الفرنسية، ولكنه بسبب موقعه الطبقي، على ما يبدو، أو بسبب آخر غير معروف يكتفي بالتنويرية في مراحلها البدائية مع جان جاك روسو وكانت وفولتير وديكارت، حيث إن المد التنويري مازال في مساره المثالي والروحاني بموقفه المناهض لسلطة الكنيسة وليس للكنيسة، موقف تنويري بلبنته الأولى وانطلاقته الأولى بالفصل بين الدين والدولة، وبأن التقديس للكنيسة يقتضي تطهير الكنيسة من سلطة الوصاية على المجتمع، وهذه كانت بداية المد التنويري، وليس التطورات الارتقائية اللاحقة على مسار الزمن بالنسبة للفكر بتجلياته التنويرية وطبيعته النورانية التي تزيل الظلمة عن الحقائق والوقائع وعلاقات الانسان بالانسان... أن مفكرنا الجليل هاشم صالح لا يستسيغ كارل ماركس ولا يعير فكره (الماركسية) أي اهتمام، وكأن ماركس والماركسية عدم لا وجود... ويقول بصريح العبارة: «في حياتي كلها لم أكن معجبًا بماركس ناهيك بالماركسية والشيوعية وذلك لسبب بسيط هي أنها مادية محضة أي تركز على العوامل المادية بشكل مسرف. وهو شيء يزعجني وينفرني منها. لهذا السبب لم يكن ماركس أحد مرجعياتي الفكرية يومًا ما. وذلك على عكس فولتير او كانت او بالأخص جان جاك روسو. فهؤلاء مثاليون روحانيون أكثر مما هم ماديون بكثير»... مفكر (تنويري) يرفض بالمطلق فكرًا تنويريًا ونضاليًا وإنسانيًا لسبب بسيط وهو أن هذا الفكر يعتمد المنهجية المادية في التحليل وفي البناء الفكري، هذا من حقه الطبيعي، ولكنه مع التمسك بهذا الحق، ولسبب بسيط، فإنه ينفي عن نفسه أن يكون مفكرًا تنويريًا، لأن المفكر التنويري لا يقصي فكرًا آخر حتى وإن اختلف معه اختلافًا حادًا وقويًا، ولكنه يتناول ذلك الفكر بأدوات النقد وليس بنزعة الإقصاء والرفض المطلق... مؤلفات ماركس، وعلى رأسها كتاب «رأس المال»، ومقالاته، كانت منذ البداية في حياة ماركس نفسه والى يومنا هذا هي مواضيع ساخنة بين المفكرين والأدباء والسياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، وقد أنتجت عقول هؤلاء الكتب والمقالات والدراسات حول ماركس وأفكار ماركس ونضال ماركس، وطبعًا عن الحياة الفقيرة الزاهدة التي ميزت حياة ماركس وأسرته، وكارل ماركس بهذا الفقر المتوج بالزهد كان حرًا بامتياز (ولا نقول بالمطلق حتى لا يُساءُ فهم كلمة «حر»)... الغريب مع الأستاذ هاشم صالح أنه في مقاله يستعرض كتابًا عن كارل ماركس لمفكر فرنسي معاصر هو هنري پِنا رويز Henri Pena-Ruiz، يجري في كتابه حوارًا خياليًا مع كارل ماركس يدور محوره حول «ما رأي كارل ماركس بأحوال العالم اليوم؟»... وتُعْرَفُ طبيعة السؤال من طبيعة العلاقة بين أفكار كارل ماركس القرن التاسع عشر وتأثير الأثر والآثار لهذه الأفكار في القرن الواحد والعشرين بعد المرور بالقرن الماضي، سؤال مثقل بالهموم يبحث عن مخرج لتلك الهموم في أفكار كارل ماركس (الماركسية)، هذا المفكر الفرنسي يقف على مسافة لصيقة وثيقة واثقة من أفكار كارل ماركس، وهو يقر في كتابه كيف أن ماركس الذي شَخَّصَ الاقتصادية ـ السياسية للرأسمالية في بداياتها التنافسية بدقة منهجية كشفت سلسلة من النظريات التي توضح طبيعة العلاقات في الانتاج الراسمالي، وكيف انه استطاع أن يستقرء، بمنهجيته المادية ـ الجدلية المراحل اللاحقة لهذه الرأسمالية المتوحشة بطبيعة التلهث وراء الربح... وينقل كاتب المقال هذه الكلمات عن كتاب المفكر الفرنسي: «ولكن ماركس كما يقول المؤلف لم يشهد إلاّ المرحلة الأولى من الرأسمالية أي رأسمالية القرن التاسع عشر وهي ما يمكن أن ندعوه بالرأسمالية البدائية..... ولكن بعد هذه الرأسمالية الأولى المتوحشة واللاإنسانية بالمرة حلت الرأسمالية الثانية في القرن العشرين. وقد لعبت تنظيرات ماركس وانجلز دورًا كبيرًا في تخفيف وطأتها على الطبقة العاملة. فقد وجهت هذه التحليلات والتنظيرات المضيئة نضالات الطبقة العاملة وجعلتها تفرض على الرأسماليين بعض التسويات والتنازلات لصالحها، وهكذا حصل العامل على الضمان الاجتماعي والصحي وتقليص ساعات العمل وزيادة الأجور.... ثم انتقلنا الى المرحلة الثالثة من مراحل الرأسمالية وهي العولمة الرأسمالية المصرفية،... وهذه المرحلة الثالثة تتميز بهيمنة الفلوس... فأصحاب المليارات يتحكمون بالعالم... كان كارل ماركس قد تنبأ بها في كتاب ( الرأس المال) الشهير، وبالأخص في الفصل المكرس لتحليل عبادة السلعة وتقديسها، وكذلك عبادة المال.... بل وتنبأ بالانحرافات الخطيرة التي طرأت على الرأسمالية مؤخرًا وأدت الى المضاربات المصرفية في البورصات العالمية، وهي مضاربات أدت الى الأزمة العالمية الشهيرة عام 2008، حيث حصلت أكبر عملية سطو على مدخرات الناس العاديين في البنوك... كل هذا تنبأ به كارل ماركس...»، ويختتم الاستاذ هاشم صالح مقاله بهذه الكلمات على لسان المفكر الفرنسي: «لقد ناضلا (ماركس وأنجلز) فكرًا وممارسة من أجل تجاوز هذا العالم الراسمالي الظالم واستهلال عالم آخر جديد. ولم تذهب نضالاتهما سدى، فقد تحسنت أوضاع الطبقة العاملة حيث نالت بعض حقوقها في عهد الرأسمالية الثانية»... مقال واضح، وكاتب المقال محير... المقال عرض لكتاب عن كارل ماركس يشيد بأفكاره ونضاله وانسانيته وتنبؤاته الدقيقة مع رفيق دربه أنجلز، في الوقت الذي يبدي فيه صاحب المقال انزعاجه ونفوره من ماركس ومن أفكار ماركس، ولا يعتبر ماركس مرجعًا فكريًا له.... كيف يستقيم الأمر مع هذا التناقض بين النفور من مفكر وبين عرض مفصل فيه اشادة وتمجيد لهذا المفكر، أمر حتمًا محير، وكأن المفكر هاشم صالح يتعزز دلالًا على ماركس ويقول له بغنج «إني أكرهك!!!»، بينما القلب ينبض حبًا وشوقًا اليه. لقد قرأ كتابًا حديثًا يشيد بماركس، ولم يتمالك نفسه ولا صبره إلاّ أن يُعَرِّفَ الناس بهذا الكتاب في مقال مطول... أنا شخصيًا لقد أعجبني المقال كثيرًا، لأنه أنصف مفكرا عظيما هو كارل ماركس الذي مازال موضوعًا ساخنًا منذ القرن التاسع عشر الى يومنا هذا في القرن الواحد والعشرين، وأنا بين حيرةٍ وإعجابٍ بالأستاذ هاشم صالح، وأكتفي بهذه الحيرة والإعجاب دون إصدار أي حكم عليه، وأترك باب الحكم مفتوحًا أمام القارئ..
مشاركة :