في وقت يتجول فيه بين المهرجانات، وآخرها مهرجان روتردام للفيلم العربي حيث فاز بالجائزة الكبرى، وصل الفيلم الروائي الطويل السعودي «بركة يقابل بركة» إلى دور العرض المحلية في دبي كما في غيرها. وهو الفيلم الذي تتولى إدارة توزيعه شركة «MAD سوليوشيز». وكانت جولة الفيلم على المهرجانات العالمية استهلت مع عروض قسم (الفورم) في الدورة الـ 66 من مهرجان برلين السينمائي. والفيلم من تحقيق المخرج محمود صباغ في تجربته الأولى لصناعة فيلم طويل بعد تجارب عدة مع المسلسلات التلفزيونية. وهذه التجارب قد تلمسها في الفيلم، فتشعر أنك أمام كاميرا تليفزيونية أكثر منها سينمائية، لكن هذا لا ينفي أن هذه التجربة تستحق المشاهدة لأسباب عدة، ليس أهمها الفضول الذي يعتريك بأنك أمام فيلم سعودي الإنتاج فحسب، وليس لأن السعودية لأول مرة تختار ممثلاً لها للمنافسة على جائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي، إضافة إلى أن الفــيلم والذي تم تصويره كاملاً فــــي مدينة جدة استطاع ببساطة أن يوحـــد الضحـــكة لدى مشاهدين من كل الجنسيات المختلفة أثناء عرضه في برلين، بل كذلك لأن الفيلم يتناول قضايا متعددة يعاني منها المجتمع السعودي تم تجسيدها في شكل كوميدي وقريب من القلب، ليوصل رسالة أن ثمة محاولات يقوم بها جيل الشباب الحالي إذا ما وقع في الحب، هذا الحب الذي لا يعرف القوانين. تدور أحداث الفيلم الذي لعب دور البطولة فيها هشام فقيه، وفاطمة البنوي، اللذان يحملان نفس الاسم «بركة»، في مدينة جدة بين حي فقير وحي غني، تولد شرارة الحب بينهما: هو موظف بلدية بسيط، وهي شخصية مشهورة على الانستغرام اسمها السري بيبي. يجمع بينهما محاولات ليس لسد الفجوة الطبقية التي تفرق بينهما، بل لأن كل واحد فيهما يحتاج إلى هذا الحب حتى لو كان غير منطقي، فشخصية مثل بيبي التي يتهافت عليها الجميع من خلال الانستغرام، والتي تعيش كابنة متبناة لعائلة ثرية، تستغل جمالها للترويج لشركات العائلة وغيرها، تحتاج الى شخص لا يريد استغلالها بل يريد ان يحبها ويعطيها مساحة للجنــــون الذي من خلاله ستشـــعر ولو للحظات من السهل عدها أنها سعيدة وقادرة على أن تنظر الى نفسها في المرآة وتضحك. في المقابل بركة الرجل الذي يعيش في حي فقير، ويعمل موظـــفاً في البلدية وممثلاً مسرحياً في المساء، يضطر الى تأدية أدوار نسوية لأن المرأة لا يسمح لها بالتمثيل. في حي بركة الفقير هناك العديد من الشخــصيات مثل شخصية «الدادا» التــــي تتحكـــم بكل عائلة في الحي بادعائها أنها تشفي العليل وتقرب الحبيب وتعالج العقيم، والمفارقة أنهــــا زوجة رـــجل يعزف على العود، تــدرك معه أن في فترة ما كان العزف والغناء لا يعتبران حراماً بل كان يوجد مجموعة من أهالي الحي يجتمعون كل ليلة ليصدحوا بموسيقاهم التي يصفق لها الجميع، وكانت زوجته التي تحولت الى منجمة تحب الموسيقى ايضاً، تدرك معه أيضاً أن سابقاً كانت الحياة أكثر حلاوة وانفتاحاً، كان المسرح فيه جمهور من الجنسين، وكانت الإذاعة تبث أحلى الأغنيات، وحتى التلفزيون، قبل محاولات تكفيرية بتهديد هذا الصفو، وتحريم حتى صوت أم كلثوم، وفق وجهة نظره. الواقع يقرّب بركة أيضاً يبحث عن الحب فـــي مجتمـــع لا يسمح للقاء الرجل مع الأنثى من دون قيد شرعي، والمصادفة وحدها التي ستجمع بين بركة وبركة «بيبي». وسيفـــاجأ الجمهور أن علاقة حب تربط بين بركـــة وبيبي اللذين يعيــشان ظروفاً مختلفة، لكن الواقع ومعطياته الكثـــيرة ستقرب وجهة نظرهما، المرتبطة برؤيتهما تجاه فكرة الوطن وما يجب أن يكون عليه بأسلوب كوميدي استطاع أن يوصل الرسالة ببساطة. أن الحب يحتاج الى مكان يحتويه. أحداث عديدة تمر في الفيلم الذي من المتوقع أن يجوب دور سينما عربية قريباً، ستجعلك تتقرب من فكرة محاولات حثيثة ترضى بأبسط المتاح لتكون على قدر التوقعات بمستقبل أجمل، هذا المستقبل الذي لا يحتمل وجود من يتنطح ليحد من طموحاته. فمن خلال الكوميديا وهي المخرج الوحيد لتنفيذ محاولات لقاءات عابرة بين الحبيبين ستدرك أن الحياة ليس بتلك الصعوبة اذا ما قرر اثنان أن يعيشاها ولو لدقائق، فاللقاء في بقالة على طرف الشارع لاستراق نظرة وابتسامة، أو لتمرير وردة أو دبدوب، كفيل بأن يناما وهما على قيد حلم بلقاء عابر آخر. ولكن الشوق سيجعلهما يفكران بطرق مختلفة ليطيلا ذلك العبور، وليحولا استراق النظرات إلى لمسة يد، وأرجوحة يدفعها بركه كي تضحك بيبي مثلاً، فالورود التي تصل ذابلة بسبب انتظارها اللحظة لم تعد مجدية، وعلى الورد أن يصل دائماً برائحته وعنفوانه. تفاصيل دقيقة تمر في هذا الشريط السينمائي، الذي تشعر بارتباكه في مشاهد عديدة، وكأن لقطات التصوير التي جمعتهما هي الأخرى حقيقية تخاف أن يتم رصدها من الذين يعتبرون الفن حراماً. جرعة أمل ولعل أهم ما في هذا الفيلم أن فيه جرعة من الأمل، بأن الحب وحده القادر على تحدي القلق والخوف، لأنه يجعل من يشعر به خارج الواقع، يتحداه بكل الطرق بسيطة أو خطيرة. صحيح أن ثمة نوعاً من الإرباك يطغى في طـــريقة ملاحقة الكاميرا للحبيبين، لكـــن هذا النوع من الإرباك يبدو مــقصوداً كي يوصل الإحساس للمتلقي ليس فقط من خلال تعابير البطلين بل من خلال المشهد بأكمله من إضاءة وصوت ولقطات متنوعة وشخصيات تظهر فجأة وتختفي. بيد أن كل هذا لا يتناغم مع نهاية تعتبر الأضعف في الفيلم، لكن لا شك في أن هذه النوعية من الأفلام الصادرة من بلاد لا يوجد فيها دور عرض سينما بالمعنى المجازي ستحدث فرقاً.
مشاركة :