«إن من الكلام ما هو أشد من الحجر وأنفذ من وخز الإبر وأمر من الصبر وأحر من الجمر، وإن من القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تنبت كلها ينبت بعضها». «لقمان الحكيم». لطالما كان للكلمة وقع شديد على العقول والنفوس على مر التاريخ فبعض الكلمات شنت بسببها حروب وبعضها رفع بورصات عالمية وبعضها غير ملامح أجيال ومجتمعات، هكذا تتعامل الحكومات مع الكلمة في الخطاب الرسمي أو عبر وسائل الإعلام المختلفة. ولا شك أن الأغنية تعتبر وسيلة إعلامية ذات تأثير على العقول والوجدان بدليل الاستعانة بها في أوقات الحروب أو الأزمات الاقتصادية، ففي مصر على سبيل المثال بدأ ظهور الأغنية الوطنية بعد قيام ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي. وقد جسّد فنان الشعب سيّد درويش مطالب الثورة، وكان أبرزها نشيد مصر الحالي «بلادي بلادي» من تأليف الشيخ يونس القاضي والمأخوذ عن خطاب الزعيم مصطفى كامل. إن تأثير الأغاني يأتي في المقام الأول من معاني كلماتها ومن ثم يضيف عليها اللحن والأداء قوة وسلطة على الوجدان، ولا شك أن الأغنية العربية تعيش في هذه الأوقات أزمة لم تمر بها في أي وقت مضى، فهي لم تجد بعد موقعها ما بين الأصالة والمعاصرة، وحالة عدم الاتزان هذه أفقدتها قوة التأثير الإيجابي على المجتمع العربي فما بين حداثة تميل للطابع الغربي وبين رداءة المفردات المنتقاة، تسقط الأغنية العربية في أزمات مختلفة، كاختفاء هويتها وركاكة معاني كلماتها حتى وصلنا إلى مرحلة العزوف عن الاستماع لها لأنها لا تنمي لدينا الذائقة الفنية. إن المرحلة المضطربة التي تمر بها منطقتنا العربية تدعونا إلى إحياء الأغنية العربية وذلك بدعوة الشعراء الحقيقيين وأصحاب المواهب الشعرية الأصيلة ليبادروا بالكتابة الغنائية الأصيلة إضافة إلى التشجيع على العودة إلى اللحن العربي وتطويره بما يتناسب مع أصالته وعراقته، ولا ننسى دور الناقد الفني الذي يتحمل مسؤولية الحفاظ على الإرث الغنائي الأصيل من خلال الكتابة النقدية الهادفة والصادقة. لا شك أن مجد الأغنية يأتي من الارتقاء بها لحنا وأداء وكلمات، وهو مجد تصنعه منظومة فنية وثقافية ومجتمعية، لأن هذا المجد يأتي من ثقافة واعية لدى المجتمعات ومن حضارة أصيلة تتباهى بهويتها. والغناء بحد ذاته نوع آخر من الحياة، نحتاج إليه كبشر ليحرك فينا مكامن الجمال والإحساس، ونحتاج إليه ليمنحنا أوقات تأمل وصفاء فيتجلى فينا في صورة الحنين والشجن: أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا سرّ الخلود ..وأنين الناي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود أو يرسخ فينا حب الوطن: وطني الحبيب وأنت موئل عزةٍ ومنار إشعاعٍ أضاء سناهُ..ولا شك أن الأغنية الجيدة تؤكد على وجود ثورة فكرية كاملة إلا أن تراجعها في الفترة الأخيرة يعود إلى طغيان المادة الذي طمس هويتها فهي لا تسهم في الترفيه بقدر ما تخاطب المستمع وتطرح الأسئلة بعيداً عن كل ما هو فن استهلاكي. وإذا ما اندثر هذا النوع الغنائي فإن القضايا أيضاً تموت، أو تستبدل بقضايا لا تنتمي للب القضايا الإنسانية.
مشاركة :