خلف الراية الواحدة والكبيرة المرفوعة لتحرير الموصل من سطوة داعش ثمة رايات كثيرة تتزاحم وتتدافع. فمعركة تطهير الموصل من جهاديي دولة الخلافة، الشجرة العالية التي تحجب غابة نزاعات من كل الأحجام والأهواء. وبات بلا جدوى، بل حتى من العبث، أن يُطلب من الأنظار الانصباب على أعالي الشجرة أو على ضخامة جذعها كي لا ترى أطياف صراعات مقيمة في الغابة الخلفية. وهي صراعات مقبلة وواعدة بالمزيد من النزاعات. يكاد المشهد العسكري أن يكون سوريالياً. وهو على أي حال، وفي أدنى تقدير، غير مسبوق ولا مثيل له في حوليات الحروب القديمة والمعاصرة. فهناك تحالف دولي ضد داعش تقوده القوة الأعظم في العالم ويضم «نظرياً» ثلاثين دولة ويحظى بمروحة من التوافق حول شرعية تشكله وصوابية هدفه. وهناك أكثر من مئة ألف مقاتل من قوات الحكومة المركزية في بغداد من جيش وشرطة وقوات مكافحة الإرهاب. القوات العراقية هذه يقودها رئيس الحكومة والسلطة التنفيذية حيدر العبادي الذي أعلن قبل أيام قليلة بدء المعركة تحت شعار ملحمي واعد بالخلاص الأبدي وهو «قادمون يا نينوى». غير أن حكومة العبادي موصوفة ومتهمة كسابقتها، بحق ولكن ليس دائماً، بأنها ذات طابع شيعي فئوي غالب وخاضعة للنفوذ الإيراني. هذا ناهيك عن غموض وضعية قوات «الحشد الشعبي» الشيعية التي أثار اشتراكها في المعارك السابقة جدلاً لا نهاية له. هناك أيضاً آلاف من مقاتلي قوات البيشمركة الكردية الذين بدأوا عملية تحرير البلدات والقرى القريبة من الموصل. وهناك قوات من ميليشيا «الحشد الوطني» ذات الطابع السني المحلي بقيادة الحاكم السابق لمحافظة نينوى أثيل النجيفي، وهي قوات مدرّبة ومدعومة من تركيا، ومن حكومة كردستان العراق. مقابل هذه الميليشيا هناك آلاف من عناصر الميليشيات العشائرية السنية الموصلية بقيادة نوفل السلطان والمدعومة من حكومة بغداد. وهناك قوة عسكرية تركية ترابط منذ 1994 في محيط بعشيقة تغذيها في هذه الأيام تصريحات القادة الأتراك عن «حتمية» المشاركة التركية في معركة الموصل ضد داعش مهما ارتفعت نبرة الاحتجاج الحكومي العراقي على انتهاك السيادة الوطنية. كل هذه القوات الدولية والإقليمية والمحلية تحتشد لخوض معركة فاصلة، وملحمية وفق البعض، ضد قوات تنظيم جهادي وإرهابي يتراوح عدد مقاتليه في الموصل، وفق تقديرات الخبراء والعارفين بالميدان، بين خمسة آلاف وثمانية آلاف مقاتل. هذا التركيز على التفاوت الهائل بين طرفي المواجهة الموعودة لا يسعى إلى التقليل من قوة داعش وسيطرته شبه السحرية على مساحات شاسعة من الأقاليم العراقية والسورية، خصوصاً ذات الغالبية السنية، كما هي حال مدينتي دولة الخلافة الداعشية، أي الموصل العراقية والرقة السورية. غير أن هذا لا يمنع أي مراقب من حقه في أن يسأل من دون أن يتخفى تحت رداء من السذاجة المحسوبة: ما الذي يجعل من معركة يفترض أن تكون، في حالات عادية، بين الجيش الوطني وقوة انفصالية متمردة، معركة عالمية تستدعي كل هذه الحشود من القوى الدولية والإقليمية والمحلية؟. قبل أن نجيب عن هذا السؤال علينا أن نتذكر أن في صفوف القوات المحتشدة وفي غرف عملياتها الكثير من حملة الخرائط العسكرية وغير العسكرية. إنها خرائط الجغرافيا البشرية وأقاليمها الاجتماعية الإتنية والطائفية والمذهبية والعشائرية. بعبارة أخرى يفصح التوافق الكبير ضد داعش عن ضرورة طرد التنظيم الطارئ من تاريخ المنطقة الحديث بوصفه، في نهاية المطاف، ظاهرة عابرة. كل فنون القتل وتقنيات التوحش التي طاب لتنظيم الدولة الإسلامية استعراضها برعونة لا تبدّل شيئاً في صفة انتسابه إلى الظواهر التاريخية القصيرة الأمد. أما الجغرافيا والمساحة الترابية التي استولى عليها داعش فهي مسرح التاريخ الفعلي. ولم يتوقف المؤرخون الكبار من ابن خلدون إلى فرنان بروديل عن تذكيرنا، نحن المنبهرين بالتماعات الحدث الصاخب والمدوّي، بأهمية الظواهر العنيدة ذات الأمد الطويل، أي العصية على التبدّل السريع، وفي مقدمها الإطار الجغرافي. المحتشدون حول الموصل لمقاتلة داعش لا يخفون نزاعاتهم حول ما بعد داعش. وقد صدرت منذ اليوم الثاني على ابتداء المعركة تصريحات لقادة ميدانيين في البيشمركة وفي الجيش العراقي الحكومي تبادلوا فيها الاتهامات والشكوك في نوايا بعضهم البعض متحدثين عن ضعف التنسيق الميداني بين القوات المشتركة. وإذا أضفنا إلى المشهد حملة التصريحات العنيفة بين حيدر العبادي وأردوغان حول شرعية التدخل العسكري التركي يتكون لدينا مؤشر كبير إلى أن الصراع على جلد الدب الداعشي بدأ قبل اصطياده. وتتضح الصورة أكثر عندما نلتفت إلى الاجتماع الذي عقد في باريس وضم ممثلي الدول المجاورة للعراق، بما في ذلك إيران، للتباحث حول مستقبل الموصل كما لو أنها على وشك التخلص من حاضرها - ماضيها الداعشي. وليس جلد الدب سوى جغرافيا النفوذ والولاء وتقرير حصص الجماعات المتزاحمة على تثبيتهما. وهناك على الأرض من يلخص مشهد شد القمصان الدائر بين القوى الزاحفة لطرد داعش. إنهما نوفل السلطان الزعيم العشائري السني المدعوم من حكومة بغداد وأثيل النجيفي البعثي السابق وقائد «الحشد الوطني» المدعوم من تركيا ومن حكومة كردستان. لنقل إن معركة الموصل باتت مسرح لعبة أمم وجماعات وإن في قوالب جديدة. والرايات الكثيرة المرفوعة تزعم كل واحدة منها تمثيل تاريخية الجماعة المنضوية تحتها بطريقة استعراضية محمومة، سواء كانت جماعات وطنية أم ما دون الوطنية الحديثة. واختزال هذه التاريخيات في معادلة صراع مفتوح بين الشيعة والسنة يبقى، على وجاهة العديد من مؤشراته، ضرباً من الاختزال المريح والكسول. إنها لعبة أمم من الطراز السابق على الحرب الباردة. وليست دعوة الرئيس التركي إلى قراءة التاريخ القريب والعثماني لتبرير التدخل التركي في الموصل إلا طريقة لوضع التاريخ في خدمة مصالح آنية. فالتاريخ العثماني حافل بتقلبات وتعرجات كثيرة بحيث تصعب المطابقة بين السلطنة ومداها الأمبراطوري وبين توسعية الدولة القومية الحديثة. والقضية الكردية التي تشكل وسواس السياسة الأردوغانية الحالية تقيم على الحدود الملتبسة بين السلطنة والقوميات الحديثة. أما هروب قادة داعشيين إلى سورية فهو ضمن لعبة الأمم.
مشاركة :