أفلام الموجة الجديدة في السينما الصينية لم تتبن الأنماط الغربية ولم تدر ظهرها للقضايا الصينية، صممت على تناول المشاكل الحقيقية في المجتمع. العربأمير العمري [نُشرفي2016/10/23، العدد: 10433، ص(16)] لقطة من فيلم "لعنة الزهرة الذهبية" لجانغ ييمو للعام الثالث على التوالي كانت السينما الصينية هي السينما التي يحتفي بها مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الأخيرة في قسم خاص يحمل عنوان “التواصل مع التنين”. وبعد فينيسيا مباشرة حصل الفيلم الصيني الجديد “لست مدام بوفاري” على جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما في مهرجان تورنتو السينمائي، ثم مضى الفيلم نفسه ليحصل على جائزة أحسن ممثلة لبطلته الممثلة الشهيرة “فان بنغ بنج” التي عرفت خارج الصين بدورها في فيلم “الرجال إكس″، بل ونال أيضا جائزة أحسن فيلم أي الجائزة الذهبية في مهرجان سان سباستيان ما يعتبر مؤشرا على عودة السينما الصينية بقوة إلى الساحة العالمية بعد فترة كمون طويلة. من جهة أخرى ينتقل الاهتمام بسينما العملاق الأصفر إلى مهرجان القاهرة السينمائي الذي ستقام دورته الثامنة والثلاثون في الفترة من 15 إلى 24 نوفمبر القادم، والذي أعلن بالفعل أن السينما الصينية ستكون هي السينما “ضيف الشرف” التي يحتفي بها في الدورة القادمة في إطار الاحتفال بمرور ستين عاما على بدء العلاقات السياسية بين مصر والصين التي دشنها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1965. البدايات الأولى عرفت السينما في الصين وجودا مبكرا فقد شهدت العروض السينمائية الأولى عام 1896 أي بعد ظهور الاختراع الجديد في باريس على أيدي الأخوين لوميير مباشرة، أما أول فيلم سينمائي فقد أنتج في الصين عام 1905، وكان فيلما تسجيليا. أما أول فيلم روائي درامي صيني فقد ظهر عام 1912. وقد مرت السينما في الصين بالكثير من التقلّبات والمشاكل التي واكبت التطورات السياسية منذ الغزو الياباني عام 1937 إلى الثورة الثقافية وتقلّباتها المعروفة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. واقتضى الأمر وقوع تغيرات عميقة في بنية المجتمع الصيني إلى أن بدأت السينما الصينية تشهد عصرها الذهبي في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي مع ظهور حركة السينما الصينية الجديدة على أيدي مخرجي “الجيل الخامس″ من خريجي معهد بكين السينمائي عام 1982، وأصبحت تفرض نفسها على كل مهرجانات السينما في العالم منذ ذلك الحين، بعد سنوات طويلة من التجاهل والصمت والانغلاق على الذات، وبعد أن أصبح من المستحيل مهما بلغت قبضة الرقابة، أن يعيش السينمائيون “في الكهف”، وهو التعبير الذي استخدمته الممثلة والنجمة الصينية الجميلة فان بنغ بنغ وهي تتسلم جائزة أحسن ممثلة في سان سباستيان مؤخرا. كان ظهور السينما الصينية الجديدة أو الموجة النقدية في السينما الصينية التي تميزت بالجرأة السياسية المدهشة وباهتمام مخرجيها الكبير بالعثور على جماليات جديدة في التعبير السينمائي، باستخدام الصور المجازية، والألوان، والتنقيب في التاريخ الصيني والأدب الصيني للعثور على نماذج تصلح للتعبير عن الهوية والثقافة الصينيتين، وفي الوقت نفسه استخدم السينمائيون من هذا الجيل التجارب الشخصية القاسية التي مروا بها في زمن الثورة الثقافية وعبّروا عنها في أفلامهم وصولا إلى أقسى مستويات الهجاء السياسي في فيلم “العيش” لجانغ ييمو (1994). عودة إلى الماضي بعد وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة عام 1949، بادرت الحكومة إلى تأسيس صناعة سينمائية جديدة. وأعيدت تسمية أستوديو سينمائي كان قد بناه اليابانيون في منشوريا في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين وأطلق عليه “أستوديو الشمال الشرقي”. ونجح هذا الأستوديو عام 1949، في إنتاج ستة أفلام في إطار السياسة الجديدة، رغم النقص الفادح في الفيلم الخام. وتم إنشاء أستوديوهات جديدة في بكين وشنغهاي عام 1950. كانت الأفلام الصينية التي أنتجت في شنغهاي، تتوجه قبل عام 1949 إلى جمهور المدن المتعلم والواعي نسبيا، بسبب تركز دور السينما التي تعرض هذه الأفلام في المدن. لكن الحزب الشيوعي كان يرغب في إنتاج نوع مختلف من الأفلام من أستوديوهات الدولة من أجل مخاطبة جمهور الفلاحين في الريف والطبقة العاملة في المدينة، وكانت مثل هذه الأفلام تحمل رسالة تعليمية بسيطة، وكانت مصممة من أجل الإطاحة بالمفاهيم الإقطاعية التي ترسّخت لعهود طويلة بغرض تمهيد الطريق أمام برنامج الإصلاحات الكبيرة، من إقرار قوانين جديدة للزواج، إلى الحملة من أجل القضاء على الأمراض. وبالطبع، كان الخط السوفييتي المتمثل في “الواقعية الاشتراكية”، هو النموذج الشائع في السينما الصينية في الخمسينات من القرن الماضي، خاصة وأن معظم السينمائيين الصينيين كانوا قد درسوا في معهد موسكو السينمائي. السينما الصينية بدأت تشهد عصرها الذهبي في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كان عدد كبير من السينمائيين المخضرمين في صناعة السينما في شنغهاي قد فرّوا خلال الحرب الأهلية عام 1949 إلى هونج كونج. ولم تكن سلطات بكين تثق في قدرة السينمائيين الذين ظلّوا في البلاد على صنع أفلام تخدم متطلبات العهد الجديد. ولذلك أسست الصين معهدها السينمائي عام 1956 تحت إشراف وزارة الثقافة. ومن البداية رفضت أكاديمية السينما في بكين اعتماد مبدأ قبول طلاب جدد سنويا، وأصرّت على قبول “مجموعات” من الطلاب بين فترة وأخرى. ولم يكن طلاب الجيل الأول والثاني والثالث والرابع، يدرسون فقط صناعة الفيلم ونظرياته وتاريخ السينما، لكنهم كانوا يدرسون أيضا الاقتصاد السياسي والنظرية الماركسية وتاريخ الحزب الشيوعي. لقد كانوا باختصار يتدرّبون على صنع ما تريده الحكومة من أفلام. ولم تسفر هذه السياسة عن أفلام متميزة، فمعظم الأفلام الصينية الجيدة التي أنتجت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين كانت من إخراج سينمائيين قدامى، ممن نشطوا في صناعة السينما قبل تأسيس أكاديمية الفنون. وشأن معظم المؤسسات الصينية، أغلق معهد السينما عام 1966 في خضم الثورة الثقافية، واستأنفت الأستوديوهات الإنتاج على استحياء عام 1970، فأنتجت أفلاما ثورية ذات طابع مسرحي. وتدريجيا تنوعت المواضيع وإن ظل الشكل خاضعا للقواعد الستالينية التي وضعها ماو عام 1942 في كتابه “أحاديث عن الأدب والثقافة”. وعادت معدلات الإنتاج إلى أوضاعها الطبيعية عام 1976، عام وفاة ماو تسي تونغ، لكن مرّت سنوات عديدة قبل أن يتخلّص صناع السينما الصينية من العادات الموروثة من سنوات الثورة الثقافية، وأعيد افتتاح معهد السينما عام 1978، وكانت الدفعة التي تخرجت منه عام 1982 وعرفت باسم “الجيل الخامس″ أول دفعة التحقت بالمعهد بعد الثورة الثقافية. تطورات بارزة حفلت سنوات دراسة طلاب هذه الدفعة في الأكاديمية بتطورات هامة مثل ظهور “الحركة الديمقراطية” (التي قمعت في 1989) ولكنها تركت تأثيرا راسخا على الشعر والأدب الذي أنتجه الجيل الشاب، وكذلك انفتاح الصين على السياحة، وبدء برنامج تنغ هتسياو بنغ للإصلاح الاقتصادي الذي أدى إلى الازدهار الكبير في بعض المناطق الريفية ثم توسّع فيما بعد فجعل الصين القوة الاقتصادية الأكبر في العالم. وفي المعهد، أمكن للطلاب الاطلاع على أفلام السينما العالمية بقدر يتجاوز كثيرا ما كان متاحا أمام طلاب الدفعات السابقة، بسبب إعادة افتتاح الأرشيف السينمائي. كان هؤلاء الطلاب يختلفون عن سابقيهم من نواح عديدة هامة، فقد ولدوا جميعا بعد عام 1949، وهو ما يعني أنهم لم يعيشوا تجربة “المجتمع القديم”، وكانوا بالتالي محصّنين ضد الخطاب الدعائي الذي كان يكرس فكرة أن كل شيء في الحاضر أفضل مما كان في الماضي. وكانوا مثل غيرهم من الشباب المتعلم من نفس أعمارهم، قد أرسلوا إلى الريف في أواخر الستينات من القرن العشرين، لكي “يتعلموا من الشعب”، وعملوا في المزارع والمحاجر سنوات طويلة جنبا إلى جنب مع الفلاحين. وبالنسبة إلى معظمهم، كان امتحان الدخول إلى معهد السينما يعني عودتهم بصفة نهائية إلى الحياة المدنية. وقد تحقق الإنجاز الأول لأبناء الجيل الخامس في أستوديو مقاطعة جوانكسي في العام 1984. وقد شكل ثلاثة من خريجي الجيل الخامس هم المخرج جانج جونزهاو، والمصور السينمائي جانغ ييمو، ومصمم الديكور هي كن، مجموعة للسنيما الشابة داخل الأستوديو بتشجيع من مديره، وصنعوا معا فيلم “الواحد والثمانية”. ضد التيار يروي فيلم “الواحد والثمانية” فصلا من فصول الحرب الصينية اليابانية، فهناك مجموعة من المجرمين المسجونين دسّ بينهم ضابط في الجيش الأحمر، للتجسس عليهم، يطالبون السلطات بإطلاق سراحهم من أجل الدفاع عن أنفسهم ضد الغزاة، وبالفعل يتحقق مطلبهم، ويكتشفون خلال نمو الوعي لديهم أن في داخلهم شعورا هائلا بالوطنية. كان هذا الفيلم يختلف تماما عن كل ما سبقه من أفلام صينية. وكانت لغته القاسية وسلوك أبطاله الوحشي يتناسبان تماما مع لقطات جانج ييمو المروّعة، وكان يوجه نقدا لم يسبق له مثيل لدور الجيش الشيوعي (الجيش الأحمر). وجانغ ييمو كان هو مصور الفيلم فقد كان اهتمامه الأصلي بل ودراسته هي التصوير السينمائي، قبل أن يصبح بالطبع أهمّ مخرجي الصين في تاريخها كله. الممثلة الصينية فان بنغ بنغ في مهرجان سان سباستيان وسرعان ما أعقبت فيلم “واحد وثمانية” أفلام أخرى، ففي أستوديو “تسياو تسيانغ” في مقاطعة هونان، أخرج وي جينيو فيلم “القرار السري” الذي جمع بين الابتكارات البصرية والشكلية والجرأة في طرح موضوعه. ويدور الفيلم أيضا أثناء فترة المقاومة الصينية ضد الغزو الياباني، ويصور ضابطا في جيش “الكومنتانج” (جيش القوميين) يرفض التستّر على وثيقة مشبوهة وقعها شيانغ كاي شيك. وكان الفيلم يصوّر للمرة الأولى في السينما الصينية، ضابط الكومنتانغ في صورة إيجابية. وفي الوقت نفسه، حث جانغ ييمو صديقه تشن كايغي على التقدم بطلب للنقل إلى أستوديو جوانكسي، ووافقت السلطات على طلبه، فقد كان الأستوديو في حاجة إلى مخرجين، في حين كان يتوفر في أستوديو بكين الكثير منهم. وبذلك أتيحت الفرصة لتشين كايغي للعمل مع زميلي دراسته جانغ ييمو وهي كن في فيلم “الأرض الصفراء” الذي يعتبر المانيفستو السينمائي الأول الحقيقي للسينما الصينية الجديدة. ورغم كل ما أثارته من جدل وصل إلى الهجوم الحاد، استمرت “الموجة الجديدة” في اكتساب أرضية لها في عامي 1985 و1986. ومع عام 1988 كان هؤلاء المخرجون وغيرهم قد أنجزوا أفلاما عديدة ساهمت في تجديد دماء السينما الصينية العجوز رغم قلة عددها قياسا إلى النتاج الكلي للصناعة السينمائية في الصين. لم تتبن أفلام “الموجة الجديدة” في السينما الصينية الأنماط الغربية ولم تدر ظهرها للقضايا الصينية، بل على العكس، فإذا كان هناك شيء يربط بين مخرجين مثل تشين كايغي وهوانغ تسياصن وجانغ زيمنغ، فهو تحديدا إخلاصهم الشديد للجماليات الخالصة للسينما الصينية وتصميمهم على تناول المشاكل الحقيقية في المجتمع الصيني التي يعرفونها عن ظهر قلب. إن فيلم “الأرض الصفراء” يعيد مناقشة إحدى الأساطير الراسخة في تاريخ الحزب الشيوعي الصيني (العلاقة بين الجيش الشيوعي ومجتمع قرية متخلفة في الثلاثينات من القرن الماضي) ويتوصل إلى أن الأيديولوجيا الشيوعية لم تنجح في استئصال التقاليد الإقطاعية تماما كما تصر الميثولوجيا. ويصور فيلم “أغنية سوان” لجانغ جيمنغ، ما تغير وما لم يتغير في ظل الحكم الشيوعي، من خلال تعقب الإحباطات والخيانات في حياة موسيقار مسنّ من مدينة كانتون. وكان فيلم “آخر أيام الشتاء” إخراج وي تسينيو، أول فيلم صيني عن “الكولاج” الصيني، أو المعسكر الشاسع للأشغال الشاقة في صحراء الشمال الغربي. ويصور فيلما “في أرض الصيد” و”سارق الحصان” لتيان جوانغ جوانغ، الواقع الحياتي والروحاني للأقليات العرقية في منغوليا الوسطى والتبت. سمات خاصة هذه الأفلام على تنوّعها وتفرّدها كانت تشترك معا في سمات خاصة، فقد ابتعدت عن الطابع المسرحي الذي لعب دورا كبيرا في ترسيخ تقاليد “الواقعية الاشتراكية”، وتقلص فيها الاعتماد على الحوار، في حين برز دور الصورة في التعبير عن المضمون، وسعت إلى العثور على موضوعات جديدة وزوايا جديدة لتناولها، كانت السينما الصينية قد أقلعت عنها طويلا. كانت هذه الأفلام تسعى إلى تأسيس سينما صينية متميزة، تتحرر تماما من كل من تأثيرات هوليوود و”موسفيلم” معا. وفضلا عن هذا كله، رفضت هذه الأفلام كلها الأسلوب التعليمي، مفضلة التعامل مع ما تطرحه من موضوعات من شتّى الزوايا، متيحة للمشاهدين فضاء كافيا للوصول إلى قناعاتهم الشخصية. وبعد ثلاثة عقود من الهيمنة العقائدية على السينما الصينية، استعادت الأفلام الجديدة طابع الغموض السحري، وصبغت الصورة الصينية بذلك الطابع الخاص والحسّ المرهف تجاه العالم. لم تقطع أفلام الموجة الجديدة صلتها بماضي السينما الصينية، بل من الصحيح القول إنها أعادت النظر في تقاليد السينما الصينية من منظور حديث. ناقد سينمائي من مصر :: اقرأ أيضاً نهاية الدين أم عودة الديني شربل داغر يغامر روائيا في ابنة نابليون بونابرت جلسة مع الشاعر الأميركي مايكل روتنبرغ مؤسس حركة مئة ألف شاعر من أجل التغيير رحلة مع كريم ابراهيم في جنة الأهوار
مشاركة :