فيلم الإنكار للمخرج ميك جاكسون يعالج بطريقة جديدة موضوع الهولوكوست، ويكشف عن نظرة أحادية دعائية في طرح هذا الموضوع القديم. العربأمير العمري [نُشرفي2017/02/19، العدد: 10548، ص(16)] تيموثي سبول في دور ديفيد إيرفنغ مرة أخرى يأتي فيلم جديد يناقش الموضوع الأثير لدى الكثير من صناع السينما في الغرب، أي موضوع الهولوكوست، أو ما يعرف بـ”الإبادة الجماعية” لليهود الأوروبيين خلال الحرب العالمية الثانية على أيدي الألمان النازيين. الفيلم الجديد هو “الإنكار” الذي كتب له السيناريو ديفيد هير، وأخرجه ميك جاكسون، وقام ببطولته طاقم من الممثلين البريطانيين على رأسهم راشيل وايتز وتوم ويلكنسون. هذا الموضوع المثير للكثير من الجدل الذي سبق أن تصدى له الكثير من المفكرين في الغرب، وألقوا حوله الكثير من علامات الاستفهام بل والتشكك، مثلما فعل المفكر الفرنسي روجيه غارودي، هو في السينما، موضوع “مضمون” أي يسهل الحصول على تمويل لإنتاجه من شركات هوليوود، رغم أن الأفلام التي تناقش الهولوكوست لم تعد تثير اهتماما كبيرا، ولعل أحدث مثال على ذلك فيلم “تذكر” الذي عرض العام الماضي وبلغت ميزانتيه 13 مليون دولار لكنه لم يجن في السوق الأميركية سوى 637 ألف دولار. قصة حقيقية موضوع الفيلم مبني على “قصة حقيقية”، بطلتها ديبورا ليبستادت أستاذة التاريخ اليهودي في جامعة إيموري الأميركية بولاية أطلانطا. وهي التي نشاهد الأحداث من وجهة نظرها في الفيلم مع استعراض تفاصيل القضية الشهيرة التي رفعها عام 1996 ضدها المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفنغ، يتهمها بتشويه سمعته وسبه والإساءة إليه في كتابها الذي صدر عام 1993 بعنوان “إنكار الهولوكوست: الاعتداء المتنامي على الحقيقة والذاكرة”. وقد استقطبت هذه القضية اهتمام الرأي العام وأجهزة الإعلام في الغرب وامتدت لعدة سنوات، حتى عام 2000 حينما بدأ نظر جلساتها العلنية واختتمت في أبريل من العام نفسه. يبدأ الفيلم بمشهد يدور في قاعة المحاضرات في جامعة إيموري حيث تلقي ليبستادت محاضرة على طلابها حول الهولوكوست، وفي الصف الخلفي يجلس ديفيد إيرفنغ الذي يتدخل ويطلب الكلمة للرد على ما تقوله ليبستادت لكنها ترفض أيّ مناقشة معه، فيخرج رزمة من الأوراق النقدية يلوح بها قائلا إنه سيمنحها ألف دولار إذا كانت تملك أيّ دليل على وقوع الهولوكوست. هذا المشهد يأتي في الفيلم بشكل هزلي تماما، فإيرفنغ الذي يقوم بدوره الممثل البريطاني تيموثي سبول، يصبح طبقا للشخصية كما هي مكتوبة في السيناريو، رجلا أحمق، يعاني من اضطراب نفسي، ويتردد أنه كان يعاني في طفولته من المعاملة القاسية من جانب والده، وهو يقاطع ويشوش ويصدر همهمات غير مفهومة، ويلوح بشكل كاريكاتوري برزمة الألف دولار في يده. الفيلم مبني على "قصة حقيقية"، بطلتها ديبورا ليبستادت أستاذة التاريخ اليهودي في جامعة إيموري الأميركية بولاية أطلانطا من حسن الحظ أن ديفيد إيرفنغ الذي ذهب عامدا إلى أميركا لحضور هذه المحاضرة ومواجهة ليبستادت والرد عليها، استعان بمصور قام بتصوير الحدث بالكامل، لكن ليبستادت تدخلت وهددت بمقاضاة المصور إذا بث الشريط الصوتي للمحاضرة دون الحصول على تصريح منها، فقام إيرفنغ بوضع الشريط المصور صامتا على موقع يوتيوب، وقام بالتعليق عليه شارحا بالتفصيل وقائع ذلك اليوم. قال إيرفنغ إنه كان في جولة بالولايات المتحدة، وقرر التوجه بصحبة مجموعة من أصدقائه، لحضور محاضرة ليبستادت لأنه كان على يقين من أنها ستقوم بتشويهه خلال المحاضرة خاصة وأنها كانت قد فعلت ذلك قبل شهرين أثناء جولتها في أستراليا ونيوزيلاندا بتكليف من المجلس اليهودي الأسترالي الذي دفع تكاليف رحلتها بالكامل. وخلال المحاضرة حسب إيرفنغ قالت ليبستادت إن هناك الكثير من الأدلة على وقوع الهولوكوست، وإن لديها خريطة بتصميم غرفة الغاز في معسكر أوشفتز بما في ذلك الثقوب الموجودة في السقف التي كان الألمان يلقون من خلالها بمادة السيانيد السامة. بعد الاستماع لمدة ساعة ونصف إلى ليبستادت قال إيرفنغ إنه طلب الكلمة وتحدث فقال لها إن ما ذكرته بشأن خريطة غرفة الغاز كذب صريح، وتحداها أن تبرز هذه الخريطة أو ترشد إلى مكان وجودها، قائلا إنه سيمنحها ألف دولار فورا إذا ما فعلت ذلك! تنميط الشخصية لا يقدم الفيلم هذا الحدث باعتباره خلافا جوهريا حول “غرف الغاز”، بل حول وقوع الهولوكوست من عدمه. كما يصور إيرفنغ، سواء في هذا المشهد أو في عموم الفيلم كشخص مختل، منعزل، قبيح، فظ، عدواني، مدفوع بالكراهية، وكنمط مرادف للشرير في السينما. وعلى الجانب الآخر تظهر ليبستادت التي تقوم بدورها راشيل وايتز، في صورة صاحبة القضية، الباحثة عن الحقيقة، تتمتع بروح المرح، والحيوية والجاذبية الشديدة (التي تنقص ليسبتادت في الواقع)، تقبل التحدي الذي فرض عليها بعد أن قاضاها إيرفنغ أمام القضاء البريطاني. ولكن لماذا القضاء البريطاني؟ السبب الأول أن الكتاب نشر في بريطانيا عن طريق دار “بنيغوين” وهي دار النشر التي أصبحت طرفا في القضية أيضا إلى جانب ليبستادت، والسبب الثاني أن القانون البريطاني فيما يتعلق بقضايا تشويه السمعة، يقضي بأن يثبت الطرف المتهم -أي ليبستادت- صحة مزاعمه، على العكس من القضاء الأميركي الذي يطالب المدّعي بإثبات صحة اتهاماته. ديبورا ليبستادت مع الممثلة التي قامت بدورها راشيل وايتز الحوار في الجزء الأول من الفيلم يدور حول هذا الجانب القانوني وغيره مثل هل الأفضل أن تنظر القضية أمام لجنة من المحلفين، أو أن تترك بين يدي قاضٍ واحد؟ ويستقر الاتفاق بين الطرفين على إسنادها لقاض واحد. يتولى الدفاع عن ليبستادت فريق كبير ضليع من المحامين على رأسهم أنطوني جوليوس (الذي تولى قضية طلاق الأميرة ديانا)، وريتشارد رامبتون (الذي يقوم بدوره ببراعة لافتة توم ويلكنسون) وهو الذي سيترافع في القضية، ويستعين المحامون بعدد كبير من المؤرخين والباحثين اليهود في موضوع الهولوكوست لتقديم شهاداتهم أمام المحكمة. أما إيرفنغ فيرتكب الخطأ القاتل الذي أدى به في النهاية إلى خسارة القضية، فقد اختار أن يتولّى الدفاع عن نفسه ومناقشة الشهود بنفسه. ولكن هل كان هناك احتمال لأن يربح إيرفنغ القضية في بريطانيا؟ لقد أنفقت بينغوين والجهات العديدة الداعمة لليبستادت (المنظمات اليهودية العالمية) ما يقول إيرفنغ إنه نحو عشرين مليون دولار، والمناخ الإعلامي السائد في بريطانيا كان يرفض أصلا أيّ مناقشة لموضوع الهولوكوست، والدول الأوروبية الرئيسية جعلت من التشكيك في الهولوكوست جريمة يعاقب عليها القانون، وإيرفنع من جهته، مدفوعا بصلفه وغروره، قام بتسليم مذكراته الشخصية إلى محامي ليبستادت لكي يلتقطوا من بين ثناياها الكثير مما يفضح الكثير من أفكاره الشخصية اليمينية أمام المحكمة. دراما المحاكمة يتحوّل الفيلم بعد المدخل الأول، إلى فيلم من أفلام المحاكمات أي يتركز أساسا داخل قاعة المحكمة، ويصبح الحوار الطويل أساس الدراما، ويتجمّد الصراع الدرامي فيه عند تلك المواجهات الكلامية التي تصل أحيانا إلى ما يشبه المحاضرات المباشرة التي تكرّر نفس الحجج والتأكيدات على وقوع الهولوكوست ووجود غرف الغاز، وإثبات أن إيرفنغ مزوّر وكاذب وعنصري ومدفوع بدوافع سياسية بسبب عشقه للنازية ولهتلر. ويلخّص الفيلم بشكل كاريكاتوري موقف إيرفنغ في شعار “لا ثقوب.. لا هولوكوست” وهو في الحقيقة شعار رفعه البروفيسور الفرنسي روبير فوريسون الذي رفض إيرفنغ الاستعانة به للإدلاء بشهادته أمام المحكمة كما رفض الاستعانة بأيّ مؤرخ من مؤرخي “المراجعة التاريخية” الذين يمتلكون الكثير من الوثائق والأدلة التي كان يمكن -على الأقل- أن تسلّط الأضواء على الجانب الآخر للفكرة الثابتة السائدة خاصة عن الهولوكوست، لكنه رفض راغبا في أن ينأى بنفسه عن تيار المراجعة التاريخية. إيرفنغ أراد أن يحصر القضية في نطاق “تشويه السمعة” فأخطأ، بينما نجح الجانب الآخر في جعلها ليست فقط محاكمة لمنكري الهولوكوست -كما يطلقون عليهم- وكأن الهولوكوست “ديانة”، بل وحسما لموضوع تاريخي أي فرضية الإبادة الجماعية إلى الأبد، وكأن قضايا التاريخ يمكن حسمها بصدور حكم من قاض! الفيلم بسبب تهافته وسخف طرحه وكاريكاتورية مشاهده وشخصياته، جاء أداء الممثلين أقلّ كثيرا ممّا هو متوقع يستبعد فريق محامي ليبستادت فكرة الاستماع لشهادة الشهود (خشية مما يمكن أن يتعرضوا له من إهانة كما يقولون)، وإن كانت الحقيقة خشية من افتضاح كذب شهاداتهم المزورة التي كشف زيف الكثير بالفعل خلال العشرين عاما الأخيرة، كما يرفضون أن تدلي ليبستادت بشهادتها أمام المحكمة، وهما قراران تعترض عليهما ليبستادت بقوة في الفيلم، لكنه قرار أفاد ليبستادت بعد أن دعّم موقفها في رفض “مناقشة الهولوكوست” مع إيرفنغ. يقول الفيلم -ونحن نستخدم هنا فعل “يقول” لأن الفيلم يمتلئ بالأقوال والحوارات العقيمة والمحاضرات التي تعيد وتزيد وتردّد نفس النغمة القديمة التي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب- إن إيرفنغ بعد أن كان يقبل “حقيقة” غرف الغاز، عاد فرفضها بعد أن قرأ تقرير “لويشتر” مهندس تكنولوجيا الإعدام الذي ذهب إلى أوشفتز وفحص غرف الغاز وحصل على عيّنات من الجدران والتربة ثم أرسلها للتحليل ووجد أن آثار الغاز السام فيها ليس من الممكن أن تقتل قملة. ولكن ليبستادت تقول لنا في الفيلم إن “كمية الغاز التي تقتل الحشرات أكبر كثيرا من الكمية اللازمة لقتل الإنسان”! نظرة أحادية وبغرض الابتعاد قليلا عن قاعة المحاكمة وتقديم بيان تسجيلي مصور عن “الحقيقة”، ينتقل الفيلم مع فريق المحامين إلى معسكر أوشفتز في بولندا، لفحص غرفة الغاز المهدمة، لكن الفيلم يفشل تماما في استغلال تفاصيل المكان للتدليل على وجهة نظر ليبستادت، بل ويفشل حتى أثناء المحاكمة في إثبات وجود الثقوب الشهيرة في سقف الغرفة، ليعبر عنها بسرعة. يكشف فيلم “الإنكار” عن نظرة أحادية دعائية في طرح موضوع الهولوكوست، ويعاني بشكل مثير للرثاء، من غياب التوازن المطلوب في أيّ عمل يتعلق بـ”التاريخ”، ومن تنميط و”شيطنة” الطرف الآخر المخالف (الخاسر)، وتصوير الطرف الآخر باعتباره ممثلا لجبهة الدفاع عن “الحقيقة”. ويعاني الفيلم أيضا من الاستطرادات والهبوط الواضح في الإيقاع، والتعويض عن غياب الدراما باللجوء إلى بعض اللقطات التي يفترض أنها صور تسجيلية تكشف صلة إيرفنغ بجماعات النازيين الجدد في ألمانيا والنمسا. وبسبب تهافته وسخف طرحه وكاريكاتورية مشاهده وشخصياته، جاء أداء الممثلين أقلّ كثيرا ممّا هو متوقع، وبدت محاولة “تلميع” بطلته راشيل وايتز، محاولة مفتعلة شبيهة بوضعها في مقدمة خشبة المسرح وتسليط الأضواء عليها وحدها، وجعل الممثلين المحيطين بها مجموعة من “الكومبارس” الصغار! ناقد سينمائي من مصر
مشاركة :