يوسف أبولوز ما أصعب التلفت إلى الوراء.. وما أصعب استعادة الصور والأشياء القديمة: الراديو الذي كانت الجدة تغطي وجهه بقطعة قماش وتصنع له ما يشبه الثوب، وما إن يأتي المساء حيث يعود كبير العائلة من الحقل بتعبه وحنوه يضغط على تلك الأزرار العاجية القريبة من اللون الأصفر فنسمع صوت العرب من القاهرة، وإذ يتوغل الليل قليلاً ينطلق صوت سميرة توفيق، وعبده موسى، وتوفيق النمري هدايا لنا نحن القرويين البعيدين عن العاصمة هنا في حقول البامياء وعباد الشمس. في أول ظهور للتلفزيون في ذلك الريف المحافظ والمتربي على أصوات الماشية والطيور كانت النسوة يغطين وجوههن احتشاماً أمام المذيع الذي يطل وجهه من الشاشة، ويتساءلن:.. كيف أتى هذا الرجل الغريب إلى ديارنا من هذا الصندوق الذي ترشح منه الصور بالأبيض والأسود هن اللواتي لا يعرفن إلا رشح ماء النبع من جرار الفخار التي يحملها الرجال من المدينة لكي يشربن ماءً بارداً بعد يوم طويل من الحصاد في امتدادات القمح والذرة والشعير. أجمل ما كان يفعلنه النسوة التطريز وغزل خيوط الصوف، ودبغ الجلود، وحياكة بيوت الشعر (بفتح الشين) وذلك بقرون الماعز.. تلك الحياكة اليدوية بأصابع نساء كن يتمتمن بشيء من الغناء الخافت في ضحى تلك القرى التي كان يتملكها الخوف في الليل.. فلا كهرباء تطرد بضوئها السحري قطعان الذئاب، ولا حرّاس على أطراف القرية ببنادق وسيوف. من أجمل ما يفعلنه النسوة أيضاً جمع العلب والخيوط، المرايا المدورة الصغيرة، والإبر، وقلادات الخرز، وكراتين الحلوى المرشوشة بالسكر المطحون.. حلوى (الحلقوم) التي نراها إلى اليوم حتى في السوبر ماركت الكبيرة في مدننا الحديثة، أما تلك النسوة البعيدات الجميلات فلم يعشن إلى زمن المول والسوبر ماركت، ولو أن إحداهن ما زالت على قيد الحياة فهي تتوكأ على عصا من الرمان وتقول لأبناء أحفادها: .. أين ذلك الرجل الذي كان يخرج من الصندوق ونغطي وجوهنا عنه.... أين الراديو وأزراره العاجية الصفراء؟ طفولة المرأة هي طفولة المكان وطفولة الزمن، طفولة القرية قبل أن تفقد براءة الريف، وطفولة المدينة قبل أن تبرد وتتجمد، وطفولة العالم قبل أن يتوحش. أجمل الأشياء، وأجمل الصور.. تلك التي تحتفظ بها النساء في صناديقهن وأكياسهن العتيقة حيث الحياة كانت في أول العمر.. حياة صبية لم تتزوج بعد. yosflooz@gmail.com
مشاركة :