بيروت: رنه جوني تعكس حارات صور القديمة، قصة مدينة قامت من تحت أنقاض التاريخ، وتجسد شوارعها الضيقة المتفرعة إلى أزقة وأدراج ومنازل عتيقة، علاقة أبنائها، مع الأصالة والتراث.. زائر صور العتيقة، لا يسعه إلا أن يقف عند جمالية الهندسة العمرانية وترابط الأحياء فيما بينها، وحده الحاج أبو يوسف، صاحب دكان في أحد الأحياء، يقول: حي يخرجك من غشاوة الواقع، ويعيدك للأصالة التي نفتقدها، هنا تعيش خلوتين ولعبة الطفولة، بين طاولة بليارد، أو دراجة هوائية، فيما تجتاح الطيبة منازل الأهالي. تحاذي حارات صور البحر، فأغلب أهلها كانوا صيادين أو بحّارة، حتى اليوم نسبة كبيرة من أهلها تركب البحر بحثاً عن تاريخ المدينة المدفون في بحرها، وحين كانت صور قسمين؛ صور البرية المحاذية للشاطئ، لا زالت حجارتها الرملية العتيقة تخبر حكايتها وصمودها في وجه الغزاة، وصور البحرية، التي غمرها البحر، وكانت مستعمرة تجارية لعرض الزجاج الشفاف وصناعة الأرجوان، تلك الحقبة الذهبية من تاريخ المدينة، التي تحولت إلى مدينة أخرى، وتناست حاراتها التي حفرت قصة أوروبا، وقدموس الذي نشر الأبجدية. تعيش تلك الحارات الإهمال، لم تؤهل لترتقي لمصاف الأحياء التاريخية العريقة، كأحياء دمشق القديمة، أو إيطاليا والبندقية؛ فأغلب المنازل مهملة، وأبوابها الخشبية موصدة على عتمتها، لكن هناك من رفض المغادرة. كنز فكري وحرفي عند مدخل الحارات يجلس أبو توفيق، السبعيني، الذي يحفظ بعضاً من عز الحي، يتذكر حين كان يقصده عبد الحسين شرف الدين، ويقيم حلقات الحوار الثقافية، ويدعم الحرفيات القديمة، وحينها كان الحي كنزاً فكرياً وحرفياً بامتياز، والحياة الاجتماعية في عصرها الذهبي، ويضيف: لصور حكاية تاريخية، فهي أكبر من مدينة الأرجوان، وأبجدية قدموس، خريطة طريق للكثير من الحضارات، من الفينيقية إلى البابلية والكنعانية، حتى عصرنا الحالي، ورغم كل ما قاسته خلال الأحداث اللبنانية، إلا أنها لا زالت تحفظ تاريخها، الذي يسكن منازلها القديمة. وحين تلج إلى أزقة صور، تقابلك حكاية الماضي، رائحة البحر تسكن الجدران.. أطفال يمتشقون لعبة الحياة، وآخرون يتجولون على دراجاتهم الهوائية، فيما يلتقط زائر الصور، ولا تشبه تلك الأحياء، صور الحديثة المكتظة بالسكان، التي تعيش على هامش التاريخ. في محله الصغير يجلس أبو جواد، لم يفارق الحي قط، يتحدث عن عادات الحي الراسخة بين كباره. ما زلنا نعيش مودة الجار، نتبادل الحكايات والأخبار، وتختفي العصرنة هنا، ولم ينشغل الأهالي بتقنيات التواصل الحديثة، بل يعتمدون على التواصل المباشر. ذكريات حاضرة ما زالت ذكريات الزمن الجميل تخترق الأحاديث، وما زالت ذاكرة التعايش الإسلامي المسيحي حاضرة، الحارات متلاصقة، وأيضاً منازلها، تمثل حارة المسيحيين في صور، نموذجاً حياً عن بعض منازل إيطاليا القديمة، النوافذ الخشبية المطلية باللون الأزرق والأزهار التي تزينها، وفق هندسة عريقة تتبع النمط التقليدي، ويعيش سكان الحارة زمنين: الحديث، وزمن التاريخ إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ويوجد العديد من الكنائس والأديرة التي تعود للعصر الصليبي، إضافة إلى الكاتدرائية الصليبية، التي تعود للقرن الثاني عشر، وفق الباحث التاريخي موسى ياسين فإن الملك الألماني فردريك برباروسيا دفن فيها، أضف إلى أن حارات صور، تعد موقعاً تاريخياً، يحوي الكثير من الآثار، فأزقته فسيفسائية من الزمن البيزنطي، إضافة إلى وجود خانات، كخان الأشقر، تعود للعهد العثماني، عند مدخل السوق القديم، وواقع الحال، يقول: إن الحي خضع لورشة تأهيل قبل عدة سنوات، ويعج بالحركة والمطاعم والمقاهي المطلة على مرفأ صور الفينيقي، والملاحات القديمة، التي تحولت إلى موقع أثري يقصده عشاق الآثار. ملَّاحات فينيقية تعود الملَّاحات وفق الصياد عبد النبي الجمل، إلى العهد الفينيقي، وكانت مركز استخراج الملح، ولكنها خسرت موقعها أثناء الأحداث اللبنانية، وفقدت قيمتها، ولا يخفي الجمل، أن القيمة التاريخية لصور تترسخ ضمن قاعدة الأصالة الصورية، التي اكتسبوها من الجد الأكبر أحيرام، في القرن العاشر قبل الميلاد، ويتحدث الجمل عن قوة صور التجارية، وموقعها البحري، إذ جعلها واحدة من أهم المدن الساحلية، التي صدّرت الأبجدية، ومازالت تصدر الجمال، بفضل تحولها إلى محمية، والعمل على الحفاظ على إرثها الثقافي والتاريخي. حافظت صور على طابعها القديم، فأسواقها تشبه سوق الحميدية في دمشق، وأسواق إسطنبول، حيث تتلاصق المحال التي تحمل طابعاً قديماً، وتصل إلى الحارات، التي تزخر بالبعد الثقافي العلمي، حين تلج إليها تتوارد الأفكار، لما لم يجر ترميمها، وأين تقف وزارة السياحة من تلك الحارات التي تجذب السائح المتيم بنبش التاريخ، بحسب العم يوسف، صاحب محل للعب البليارد: لو أيقنت الدولة قيمة التاريخ، لما وضعت تاريخها على ناصية التطور، لا يعرف قيمة الحارات إلا من يزورها، فهي تكتظ بالمواقع الأثرية والتاريخية، فكل تاريخ صور محفوظ في هذه البقعة الجغرافية. لوحة مختلفة تحملك الأحياء إلى مقاهي صور القديمة، وصوت الصيادين ورائحة السمك، وإلى صناعة المراكب الخشبية، جورج جبور توارث المهنة أباً عن جد، في الميناء يتبختر المركب الفينيقي، قربه يعمل جبور، ويؤكد أن المهنة تتراجع، ولكنني لن أتخلى عنها، لأنها تجسد حضارة صور، محله القديم الذي تتبعثر فيه الأخشاب الخاصة بصناعة المراكب، مازالت تنبض بالحياة، تحول جبور مقصد السياح للتعرف على أقدم مهنة وحرفة في صور، ف تيروس مدينة البحر وفق جبور، ومدينة الحياة المنفتحة على حضارات وشعوب عبرت منها وخلفت وراءها آثارها الشاهدة عليها. قرب جبور، يقع أقدم مقهى في صور.. مقهى الصيادين، قرقعات النرجيلة، وخلفها صوت بائعي السمك، ترسم لوحة مختلفة عن حياة صور، هنا تغيب الحداثة، ومعها تقنيات العصر، وحده الحديث عن فورات بحر صور، والمياه العذبة، والغطس، واكتشاف آثار تيروس، يخيم على جلسة، من القلب للقلب، وفق أبو جورج الذي يأمل في أن تتحول تلك البقعة إلى موطئ مهم للسياح، لأن من لا يزورها يجهل صور، لا يتردد أبو جورج، في الحديث عن مكانة صور، مدينة الأرجوان، والآثار التاريخية، والحمامات الرومانية والمرافئ الفينيقية والمهرجانات المهمة.
مشاركة :