مضى على أول إصدار لهذا الكتاب "الدولة العثمانية: قراءة جديدة لعوامل الإنحطاط" للدكتور قيس جواد العزاوي عقدان من الزمان، طبع خلالها خمس مرات، وقد تغيرت أمور كثيرة في هذه الفترة، فالاهتمام بالدراسات العثمانية بات توجها علميا وأكاديميا عربيا، فتعددت مراكز الدراسات وكثرت الندوات والمؤتمرات وصدرت عشرات الكتب، وربما يكون إقبال الدارسين والمهتمين العرب على إقتناء الكتاب يعود وفقا للمؤلف بالأساس إلى اكتساء التاريخ العثماني أهمية أكبر بكثير مما كان عليه. هذه الأهمية يضع د. العزاوي أسبابها في مقدمته الجديدة للكتاب الذي صدرت طبعته الخامسة عن دار آفاق بالقاهرة: أولا: بعد سنوات القطيعة المتبادلة ما بين العرب والأتراك التي بدأت في منتصف العشرينيات من القرن الماضي عاد التواصل بين الأمتين في بداية التسعينيات فاستدعى اهتماما متبادلا. ثانيا: تسارعت وتيرة العلاقات مع الصعود الاستعراضي للتيار الإسلامي التركي الذي وجد أن الاتحاد الأوروبي يضع عراقيل كبيرة أمام انضمام تركيا له لاعتقاد بعض القادة الأوروبيين بأن الإتحاد نادي للدول المسيحية، وهو ما دفع الإسلاميين الأتراك للعودة إلى محيطهم الجيوبوليتيكي والتمسك بعمقهم الاستراتيجي الإسلامي باعتباره حسب منظرهم للسياسة الخارجية أحمد داود أوغلو "الحديقة الخلفية لتركيا" التي تعيش في شرق أوسط يحتوي على الخطوط الأساسية لتاريخ الإنسانية على الصعيدين المادي والروحي على حد قوله. ثالثا: كان للنجاح الاقتصادي الباهر الذي حققه "حزب التنمية والعدالة" بنقله الاقتصاد التركي ليشغل المكانة السادسة عشرة على المستوى العالمي، والسادسة على المستوى الأوروبي أثره البالغ في الساحة العربية إذ بات نموذجا يحتذي، وتضاعفت مستويات التبادل التجاري العربي التركي إلى درجات قياسية، فتركيا اليوم موجودة في معظم المشاريع العربية. رابعا: ولعل أكثر ما زاد الاهتمام العربي بالتاريخ العثماني هو نزعة العثمنة التي اصطبغت بها السياسة التركية في جميع مجالات العمل المشترك: الإجتماعية والثقافية والفنية والاقتصادية، وهي في الوقت الذي تثير فيه بعض الحساسيات السيادية لدى البعض تثير في الوقت نفسه الحنين لمجد التاريخ المشترك لدى البعض الآخر. وبهذا زاد الاهتمام المشترك في الميدان المعرفي وباتت زيارات الباحثين العرب لتركيا وآثارها ومتاحفها وجامعاتها كثيرة، وتكثف البحث في الأرشيف العثماني الزاخر بآلاف الوثائق ليفتح المجال واسع لفهم أعمق للتاريخ المشترك الذي ربط الامتين طيله خمسة قرون. قدم الكتاب قراءة جديدة لعوامل انحطاط الدولة العثمانية مشيرا إلى أن أخطر مراحل التاريخ التي تستحق التمحيص والتدقيق هي المراحل الأخيرة التي شهدت تحولا حقيقيا في مسار السلطنة. تحول أو بالأحرى تحديث اقتضته عوامل عديدة داخلية وخارجية، ولكنه كما يثبت الكتاب ذلك، وتؤكده الوقائع غير مجرى التاريخ التركي والعربي. وأضاف الغزاوي "خرجت الدولة العثمانية من مسارها الإسلامي حين تبنت القوانين الوضعية وشرعت التنظيمات، هذا ما يؤكده المؤرخ التركي المعروف فؤاد كوبريلي حين يقول "إن عهدا طويلا من تاريخ التركي يقارب ألف عام، منذ دخول الترك في الإسلام إلى (التنظيمات) داخل في إطار عام يسمى (تاريخ الاسلام)، وهذا يعني أن بداية خروج الترك من التاريخ الاسلامي كانت بصدور خط كلخانة عام 1839 ثم خط همايون 1856 ودستور مدحت باشا عام 1876 ، تلك هي تواريخ حاسمة في مسيرة السلطنة باتجاه تغيير القوانين والثقافة والفكر. وفي هذه المرحلة الخطرة من التاريخ العثماني بدأ الخلاف يدب في جسم ذلك التحالف العربي التركي الذي أرسى الامبراطورية العثمانية ورسخ دعاماتها، بيد أن تفاقمه في هذه المرحلة عجل في نهاية الدولة العثمانية". عالج هذا الكتاب عوامل ضعف أساسية في عملية انحطاط الدولة العثمانية، وعلى أهمية وخطورة هذه العوامل رأى د. العزاوي أنها لم تنل حقها من الدراسة والتمحيص، حيث انقسم الدارسون للمرحلة الأخيرة من تاريخ الدولة العثمانية إلى فريقين الأول: قال بتخلف السلطنة وباختفاء مبررات استمرار خلافة دينية، وسط عالم متطور من الدول القومية الحديثة، مشيرا إلى تعاظم الاستبداد السلطاني، وعدم توازن الدولة، وضعف امكانات تطورها السياسية والاقتصادية، واستشراء الرشوة والفساد في جهازها الاداري، حتى أن اخر محاولات الإنقاذ التي عبرت عنها الثورة الدستورية عام 1908، لم تنفع. أما الفريق الثاني وهم المدافعون عن الدولة العثمانية فهم يعزون أسباب ضعف الدولة إلى عوامل خارجية أساسها الصهيونية والماسونية والإمبريالية وهي ما سمي فيما بعد بالثالوث الشيطاني، الذي مازال – في نظرهم – متربصا بالعالم العربي الاسلامي. وأوضح د. العزاوي أن النظرتين دافعتا عن طروحاتهما بمؤلفات عديدة ملأت عمليا سوق الثقافة التاريخية حتى تحددت بشكل غريب خيارات البحث العلمي، ولم تنجح أغلب الدراسات في الإفلات من إسار النظرتين. ولقد ساهمت الدراسات الاستشراقية لتاريخنا الاسلامي، في أغلب الحالات، في التدليل على طروحات بدت "علمية واكاديمية" نظرا لمتانة توثيقها ومنهجيتها، ولكنها راوغت بذكاء فابتعدت كلما استطاعت عن كل ما يتعلق بأهمية وفعالية الدور الخارجي في إضعاف الدولة العثمانية وانهيارها، بل عزت استمرار التخلف والانحطات إلى بطء مسيرة الامبراطورية للالتحاق بعجلة الحضارة الغربية والأخذ بآلياتها وبأيديولوجيتها معا، وعليه، نجد المستشرقين يكتبون باعجاب – ومازالوا - عن الدولة القومية التركية التي أسسها أتاتورك على أنقاض الدولة العثمانية رغم علمهم بأزمات تركيا الحديثة في مجالات الهوية والتابعية بعد أكثر من نصف قرن من التحاقها بالغرب كليا. درس د. العزاوي مرحلة التنظيمات التي تبنت عمليات تحديث غير مخططة لمؤسسات الإمبراطورية العثمانية، مؤكدا أنه نتج عنها تغريب لبنى إجتماعية وتشويه للعقائد والافكار، وإجراء تحولات خطيرة، ألحقت الامبراطورية مع الوقت نفسه بأنظمة السوق الاقتصادية العالمية من جراء اكتشاف أميركا والسيطرة على تجار البحار الشرقية. ومن هنا اهتم بشكل أساسي، بعوامل محددة بحثها في ستة فصول هي: نظام الإمتيازات الأجنبية ـ التنظيمات - الوصايا الغربية على الاقليات الدينية - تغلغل القوانين الوضعية على حساب الشريعة الاسلامية - جذور الفكر القومي التركي - سياسة التتريك والدعوة إلى قيام دولة طورانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. ورأى د. العزاوي إن أغلب العوامل مازال قائما وراسخا في واقعنا الإجتماعي والفكري، ولو بأشكال مختلفة، لذلك فإن دراسة هذه العوامل لا تساعد على معرفة أفضل لإنهيار الدولة العثمانية فقط، بل أيضا في تفسير ما آل إليه عالمنا الاسلامي اليوم. الطبعة الجديدة ضمت إلى جانب مقدمة المؤلف لها مقدمة د. محمد عفيفي الذي أشار إلى أن صورة الدولة العثمانية كانت وحتى وقت قريب يحيط بها الكثير من الأساطير المضللة إذ وصل الحد بالبعض إلى التحقير من شأن الدولة العثمانية على أنها رمز "الاستبداد الشرقي". ولعبت كتابات أغلبية المستشرقين على هذا اللحن، وحتى بالنسبة للشعوب الناطقة بالعربية، تضاربت فيها صورة الدولة العثمانية بشكل كبير، ففي المغرب العربي كانت الدولة العثمانيية بمثابة المنقذ الإسلامي الذي بعثه القدر كي يحمي "شمال أفريقيا" من الهجمات الشرسة من جانب الأسبان المشبعين وقت ذلك بروح صليبية جديدة، نتيجة شعار "الاسترداد" في أعقاب سقوط الاندلس. وفي مصر كانت الدولة العثمانية بمثابة رمزا للتخلف والتدهور الذي دخلت فيه مصر بعد فقدانها لعظمتها كمركز لأقوى قوة في شرق البحر المتوسط، ونقصد بذلك دولة المماليك ومركزها مصر. وفي رأي هؤلاء لم تخرج مصر من هذا التدهور إلا على ناقوس الحضارة الغربية متمثلة في الحملة الفرنسية، أو التحديث على يد محمد علي. أما عن الشرق العربي فلم تبق في الأذهان إلا الفترة الحرجة الأخيرة في عمر الدولة في الشام للقوميين العرب، ثم أخيرا ما عرف باسم "الثورة العربية"، أو في الحقيقة "ثورة الشريف حسين". وأضاف د. عفيفي "هكذا تاهت الصورة الحقيقية للدولة العثمانية بين الاختيارين التقليديين الأبيض أو الأسود، ونسي هؤلاء وأولئك أن الدولة العثمانية مثلها مثل أي دولة عظمى لها ما لها وعليها ما عليها. وأن دولة استمرت حوالي ستة قرون، لا ينبغي أن نتناولها بشكل عام يخفي حقائق ودقائق الأمور وأن لكل فترة من فترات الدولة أفكارها وظروفها وأوضاعها الخاصة. إن الدولة العثمانية في فترات النشأه والفتوة، تختلف اختلافات عديدة عن فترة الاحتضار، مع إيماننا بأن أسباب وبذور التدهور كانت موجودة حتى في فترة الفتوة، مثل الامتيازات الأجنبية، لكن اختلاف الظروف العالمية، وتعقيدات الساحة الدولية ستبرز ذلك، وفتح الطريق وتمهد الأجواء لاختمار العوامل الداخلية لتدهور الدولة العثمانية من هنا – كما يرى الكتاب – تكاتفت عوامل داخلية وخارجية عديدة وراء تدهور وسقوط الدولة العثمانية. وقال "لم يكن هذا السقوط بالحدث الهين، لقد فسره البعض على أنه بمثابة نهاية الحضارة الاسلامية وبداية "تغريب" أو "تحديث" العالم الإسلامي، ولهم في ذلك أسوة حسنة "كمال اتاتورك"، بينما رأى البعض الاخر في هذا السقوط بدايات الصحوة الإسلامية المعاصرة، ألم تنشأ جماعة "الأخوان المسلمين" في عام 1928، وفي أعقاب إلغاء الخلافة الاسلامية "العثمانية"؟ ألم ترتج الشعوب الإسلامية في آسيا نتيجة هذا الحدث، وقدمت استجابات إسلامية سواء على المستوى السياسي "الباكستاني" أو على المستوى الفردي "المودودي والندوي". ومن ناحية الإستراتيجية الدولية أعقب سقوط الدولة العثمانية ما يعقب سقوط "الامبراطوريات العظمى" من إعادة تكوين "البيت" أو الميراث التاريخي ألم يساعد سقوط الدولة العثمانية بشكل أو بآخر على ازدياد الهجرة اليهودية لفلسطين، ثم قيام دولة اسرائيل. وليس غريبا أن معظم القوانين الخاصة بأوضاع المقدسات في فلسطين – حتى تحت الاحتلال الاسرائيلي – ما تزال تسير على النسق العثماني، وبالنسبة لمشاكل الحدود التي اندلعت في المنطقة يعود أسباب أغلبها إلى الفترة العثمانية مثل مشاكل سوريا – تركيا، العراق – إيران، تركيا – العراق، تركيا – اليونان، قبرص – تركيا – اليونان، وحتى مشكلة العراق والكويت كانت تسند إلى جذور عثمانية. محمد الحمامصي
مشاركة :