!ما بين ثنايا غربتنا .. وما أدراك ما غربتنا ؟

  • 10/28/2016
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

كانت إحدى المفارقات اللطيفة عقب خروجي من السجن في أوائل يناير/كانون الثاني 2015 حين التقيت بأعز أصدقائي في بلدٍ آخر عقب الخروج من مطار القاهرة، بل كانت لحظةً سعيدة حينما التقيت معظم أصدقائي خارج البلاد، وأنا في السادسة عشرة من عمري وهم كذلك، وأذهلتني حينها وجوههم المملوءة بالتجاعيد وعلامات الإرهاق والسواد الحالك في جفونهم، فسألت أحدهم: هل تعمل يا صديقي؟ فأجاب: لا، فظللت أبحث عن سبب لما هم فيه حتى مررت به. كنت سعيداً حقاً بخروجي من البلاد الظالم أهلها؛ حيث لا سجن ولا ظلم، ولا شيء سوى الحياة الرغدة التي تنتظرني لاستكمال دراستي وخوض تجربتي التي سرعان ما بدأت وكأنما التشرد كان مكسباً لا بد أن أدفع ثمنه الباهظ، حقاً التشرد كان مكسباً أفضل كثيراً من السجون وما بينها من حكايات. قلوبنا التي تكويها الهموم من شدة ألم الفراق الذي كان رغماً عنا؛ لأنه كان الحل الوحيد الذي سرنا نحوه بسرعة، فتركنا خلفنا أهلنا وأصدقاءنا ومنزلنا، وكل ما كان في حياتنا من رغدٍ غير مأسوف علينا، فهم يقولون إن الفراق هو القاتلُ الصّامت، والقاهرُ الميت، والجرحُ الّذي لا يبرأ، والدّاءُ الحامل لدوائه. نحنُ لم نشتَق للوطن الذي ظلمنا واضطهدنا وأذلنا، نحن فقط اشتقنا إلى أهالينا، إلى لملمة شتات عائلتنا، والرجوع إلى أحضانها والحياة بينهم كما كنا من قبل، فاللحظات التي تمر علينا هنا أو هناك لم تكن باليسيرةِ حينما أتركُ الدنيا كلها باحثاً عما يكفي طعامي أو بعضاً مما يسد الجوع، لم تكن لطيفة تلك اللحظات التي لم يكن معنا فيها ثمن الغطاء الباهظ في شدة البرد، لم تكن لطيفة تلك اللحظات التي لم نجد فيها مأوى ولا مأكل ولا شيء مما يحتاجه الإنسان للحياة وفقط. شارعُنا الجميل، وزينةُ رمضان التي كنت أشتريها أنا وأصدقائي، وما أدراك ما رمضان في وسط أصدقائي وعائلتي، لو سألتني لقلت لك إنه من دونهم مر ككل الشهور، والفرق فيه كان صيامنا، والأكل في مطاعم السوريين أو الموائد. رمضان الذي كان يعقبه العيد، وفرحته، وانتظاره، وتجمع الأحباب والسفر للمصايف، أو لأي مكان به نزهة العيد، ففي غربتنا كان الوضع مختلفاً تماماً، حينما جلست لتأمّل وجهي كالأغراب، كأني لا أعرف من أنا خلف أبواب تلك المكان الغريب الذي لم أتمنّ يوماً أن أكون فيه. ظلم ذوي القربي بالطبع هو أشد مرارة على النفس، فشعورك بظلم كل من هو قريب منك يقع عليك كما الصاعقة، وما أكثر هؤلاء! تبدو تلك الحياة لنا أنها ستستمر طوال وجودنا على هذه الأرض، عندما يحن الإنسان لمكان ما لا يستطيع أن يعود له لأي سبب إن كان، أحياناً تحن قلوبنا للعودة للأرض والأماكن، وأحياناً أخرى نشكُر الغربة، فالغربة كما كانت قاسيةً جداً على كل واحد فينا علمتنا كثيراً، اعتمدنا على أنفسنا، وتعلمنا الكثير مما لم نتعلمه في بلادنا من ثقافاتٍ جديدة واتساع لمداركنا، تعرفنا على أصدقاء هم بالطبع كنوز كبيرة، وكما قال الإمام الشافعي: غَرَّبْ عَن لأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلُى ** وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ ** وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد في العام الأول فهمت تماماً أن رأيي قابل للتغيير، تعلمت أن أستمتع كثيراً وكثيراً بكل ما هو حولي، وإن كان سيئاً، أتقنت معاني الوحدة وتشبعت بآلام الفراق، أدركت نعمة الصديق الصالح، خسرت كثيراً وكثيراً، لكن أصبح لي شغف وعمل، وأضفت إلى ثقافتي الكثير، أدركت أني إنسان لا بد أن يغير في هذا الكون شيئاً خاطئاً، أدركت أن الله عادل لا يظلم، كما أخذ أعطى، عرفت الكثير والكثير. لكن ما يؤلم حقاً هو فراق الأحبة الجدد، فكل يوم يرحل عنا صديق أو أخ كبير أو واحد ممن كانوا لنا كآباء، صرنا نكره المطارات والسفر، ومع ذلك نحبها، في شعور متناقض تماماً، الهروب من الظلم والحنين للأهل والأحباب، ما أستطيع أن أختم به هو أننا مررنا بكل التناقضات الشعورية والفكرية، انتقلنا كثيراً وكبرنا كثيراً عن السن المفترضة، لكن من المؤكد أنها مرحلة فارقة في دنيانا التي خلقنا فيها في كَبَد. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :