جاءت المذاهب الأربعة لإثراء علم الفقه، وكان التباين في أحكامها القائمة على الكتاب والسنة تباينَ اختلاف وتنوع لا خلافٍ وتشتت، فكان الواحد منهم يختلف مع أخيه فيذهب إلى بيته ويقول له: هب أننا لم نتفق في مسألة، ألا يبقى الود بيننا؟ لكن مع تقادم العهد والبُعد من عصر الأئمة الأربعة تحول هذا الاختلاف المرغوب من وسيلة هدفها إيجاد بدائل أو إجابات لموضوعات استُجِدّت بعد النبي ومن بعده الأئمة الأربعة، إلى غاية نتج منها حدوث الخلاف والتفرق بين أبناء الأمة، فكان أتباع كل مذهب يقتدون بمذهبهم وقول أئمتهم وإن خالف الصواب، حتى أصبحت المذاهب الأربعة أمماً أربعاً. وهذا بالطبع يُستَثنى منه الأعلام الكبار في المذاهب الذين فهموا مراد إمام المذهب من هذا التباين في الطرح الفقهي. وشهد العصر المملوكي أشد حالات الخلاف بين المذاهب، حتى وصل الأمر أن الخارج على المذهب مقتدياً بمذهب آخر صحَّ عنه قوله، أو المنتقل منه إلى آخر، بات رجلاً متهماً في دينه. ووفقاً لما ورد في «جزيل المواهب في اختلاف المذاهب»، فإن الإمام جلال الدين السيوطي أجاز مسألة الانتقال بين المذاهب نقلاً عن الإمامين الرافعي والنووي وغيرهما، وحدَّد لذلك أحوالاً عدة: الحال الأول: أن يكون السبب الحامل له على الانتقال أمراً دنيوياً، كالحصول على وظيفة، كما فعل أحمد بن عبد الله العجمي (ت: 809 هـ/ 1406م) الذي كان شافعياً فاضطره ضيق الحال إلى أن ينزل ضمن الحنابلة في مدرسة الظاهر برقوق، فاستمر حنبلياً واشتغل بالمذهب، وشهاب الدين أحمد بن الرزاز العينتابي (توفي بعد 830هـ/ 1427م) الذي كان حنفياً ثم تحنبل لأجل وظيفة القضاء، والشهاب الأبشيطي (توفي 883هـ/ 1478م) الذي دفعه فقره الشديد إلى الانتقال من مذهبه الشافعي إلى الحنبلي لأجل وظيفة تصوف، أو مرتَّب كما فعل السراج عمر بن فارس الحسيني الحنفي المعروف بقارئ الهداية (ت: 829هـ/ 1425م)، الذي كان شافعياً ثم اعتنق المذهب الحنفي لمّا وعد الأمير يلبغا العمري (توفي 768هـ/1366م) كلَّ من يتحنَّف بخمسمئة دينار، لكنه نبغ في المذهب وانتهت إليه رئاسة الحنفية وكثر تلاميذه. والقصة هي أن أتابك العسكر الأمير يلبغا العمري في أواخر عهده تعصب للسادة الحنفية، ورغب في أن يكونوا في مصر أعظم من السادة الشافعية في الأحوال كافة، حتى أن جماعة كثيرة من الشافعية تقلدوا في أيامه بمذهب أبي حنيفة، فلما حدث ذلك خرج شخص من الشافعية وادعى أنه رأى الشافعي في المنام وهو متوجه إلى بيت يلبغا فسأله: إلى أين يا إمام؟ قال: إلى بيت يلبغا أهدمه فلا يعمر بعد ذلك أبداً، كونه بهدل مذهبي». ويعلق ابن إياس الحنفي على ذلك بقوله: «وبالفعل حدث هذا، وخُرِّبَ بيته ولم يسكنه أحد من بعده». وقد يكون الانتقال تقرباً من الملوك وأهل الدنيا، وهذا له صورتان: الأولى أن يكون عارياً من علم الفقه وليس له من مذهب من إمامه سوى اسم شافعي أو حنفي، كغالب متعممي زماننا من أرباب الوظائف في المدارس، وهذا أمره أخف، ولا يصل إلى التحريم، لأنه إلى الآن عامي لا مذهب له يحققه، فهو ينتقل إلى مذهب جديد، كما فعل الشهاب أحمد بن إبراهيم بن فلاح (توفي بعد سنة 852هـ/ 1448م) الذي كان حنبلياً فاتــصل بخدمة القاضي بهاء الدين بن حجـــي قاضي القضاة وناظر الجيش في دمــــشق، وكمال الدين البارزي كاتب السر في القــــاهرة ودمشق، فأمراه بالتحول من الحنبـــلي إلى الشافعي، ففعل. والثانية: أن يكـــون فقيهاً في مذهبه ويريد الانتقال لأجل الأغراض الدنيوية السابقة، فهذا أمره أشد وهو يصل عند السيوطي إلى درجة التحريم، لأنه يتلاعب بالأحكام الشرعية لمجرد غرض الدنيا. الحال الثاني: أن يكون الانتقال لغرض ديني. وله صورتان: 1- أن يكون فقيهاً في مذهبه وقد ترجح عنده المذهب الآخر لما رآه من وضوح أدلته وقوة مداركه، فهذا إما يجب عليه الانتقال أو يجوز له الانتقال، مثل تقي الدين ابن دقيق العيد، الذي كان مالكياً كأبيه ثم تحول شافعياً، وتقي الدين المقريزي (توفي 845هـ/ 1441م) الذي كان حنفياً على مذهب جده لأمه ثم تحول شافعياً. 2- أن يكون عارياً من الفقه وقد اشتغل بمذهبه فلم يحصل منه على شيء ووجد مذهباً غيره سهلاً عليه، بحيث يرجو التفقه فيه، فهذا يجب عليه الانتقال ويحرم عليه التخلف، لأن التفقه على مذهب إمام من الأئمة الأربعة خير من الاستمرار على الجهل بالفقه، لأنه قلَّ أن تصح معه عبادة. - الحال الثالث: أن يكون الانتقال لا لغرض ديني أو دنيوي، فهذا يجوز للعامي ولا يجوز أو يكره للفقيه، لأنه حصَّل فقه هذا المذهب ويحتاج إلى زمن آخر لتحصيل المذهب الثاني فيشغله ذلك عن العمل بما تعلم، فينقضي العمر من دون تحصيل المقصود من الانتقال للمذهب الثاني، فالأولى ترك ذلك. ومن أمثلة هذا الحال انتقال عز الدين عبد السلام بن أحمد البغدادي القاهري (توفي 859هـ/ 1455م) من المذهب الحنبلي -مذهب والده- إلى المذهب الحنفي حتى أجادَه ثم تفقَّه على المذهب الشافعي لكنه لم يفلح في إجادة فقه المالكية، فترَكه. وأدى هذا الانتقال إلى أن يصب أتباع المذهب المنتقل منه إلى غيره جام غضبهم على المنتقل. فمثلاً يصف البدر العيني الحنفي المؤرخ (توفي 855هـ/ 1451م) الشهاب أحمد بن الرزاز العينتابي (توفي بعد830هـ/ 1427م)- الذي كان حنفياً ثم تحنبل، بأنه «عار من جميع المذاهب غير متلبس بالعفة والديانة». وذكر أن من أفتى من مالكية عصره من أن من تحول عن مذهبه المالكي فبئس ما صنع، ولم يقيد، فبئس ما صنع هو. وأما من يقول إنه يجوز لغير الحنفي أن يتحول حنفياً، ولا يجوز للحنفي أن يتحول شافعياً أو غيره، فهو تعصب وتحكم لا دليل عليه، وكل قول لا دليل عليه فهو مردود في وجه صاحبه ولا يستدل على ذلك بقدم المذهب، فلو صح ذلك لوجب على المالكي أن ينتقل للحنفي والشافعي للمالكي والحنبلي للشافعي. ويرى السيوطي أنه إذا كان الأمر بالترجيح لوجب الانتقال إلى الشافعي لأسباب، منها أنه أقرب إلى موافقة الحديث وكثرة الاحتياط في الأحكام، إلى غير ذلك. وأخذ يدلل على ذلك بأقوال السلف، ونقَل عن صاحب جامع الفتاوى من الحنفية أنه يجوز للرجل والمرأة الانتقال من مذهب إلى آخر، بالكلية لا في مسألة واحدة.
مشاركة :