في معرضه الشخصي فتات ويستعيد عبيدي مشهدية جارحة، تلك التي حصلت في بغداد ما بعد احتلالها. العربسعد القصاب [نُشرفي2016/10/30، العدد: 10440، ص(14)] الأيقونة الإمبريالية على الطريقة العراقية ثمة مغزى سياسي بات لافتا وحاضرا بقوة في العديد من معارض الفنان العبيدي، تلك، التي أقامها في دول عربية وأجنبية، ما بعد عام 2003، حينا بطريقة إشهارية مفعمة بالمباشرة، وحينا آخر حاملا سخرية لاذعة، لا تخفي في الوقت ذاته دوافعها النقدية. وكأن الفنان يتخلّى عن عمد بمقصده الجمالي من أجل تجربة حافلة ببعدها الاستفهامي تجاه واقع لم يتخل بعد عن غرائبيته بقدر ما هو حافل بالخسارات. منذ معرضه الشخصي الأول في بغداد في نهاية ثمانينات القرن الماضي، ظل الفنان محمود عبيدي مثابرا، ومجتهدا في تحصيل خبرة جمالية ذات بعد تجريبي ومعاصر في تأليف عمله الفني. أمينا لرهانه هذا في عديد المعارض والمشاريع الفنية التي قدمها بعد ذلك التاريخ، والتي ستشكل تاليا رؤية جادة وملتزمة تؤطر الأفكار التي يقدمها، وعبر إجراءات مفهومية لجهة أطروحاته البصرية والفنية. في معرضه الشخصي الذي حمل عنوان” فتات”، والمقام حاليا في الحي الثقافي، كتارا، الدوحة، للمدة من 18 أكتوبر 2016 إلى 30 يناير 2017، يستعيد عبيدي مشهدية جارحة، تلك التي حصلت في بغداد ما بعد احتلالها. موضوعات معرضه جاءت من صلب تداعيات ذلك الحدث، وبدواعيه، وبآثار فوضاه المدمرة التي "فتات" المشهدية الجارحة اصطنعها. استعادته، تلك، قدمها عبر استعارات مركبة لا تخلو من رمزيتها التاريخية أو الواقعية، وبحساسية هي أقرب منها إلى التهكم حينا والإشهار حينا آخر. وبضرورة افتراض مقاربة مع عنوان لتجربة تنطوي على قصدية فاضحة، تحيل إلى تصوّر يبوح بمعنى أن الفتات هو ما تبقى من احتلال العراق. جاءت طبيعة أعماله المقدّمة في المعرض، على نوعيين فنيين وتجربتين مختلفتين في طبيعتهما الإجرائية والتنفيذية، لكنهما معا يتمثلان غرضهما في تقديم وحدة عرض تتوافق مع ذات الموضوع. في تجربته الأولى، التي تتألف من أربع لوحات مسندية، ثلاث منها، تحمل عناوين “أصنع الحرب لا تصنع الحب”، فيما اللوحة الأخرى جاءت تسميتها “بقايا مدينة”. سيتمثل العبيدي أسلوبية هي امتداد لأعماله على لوحة الحامل، الحسّ التعبيري القائم على صياغات عفوية ومبسّطة ومتقشّفة في تفاصيلها، لإشكال بشرية غامضة، تم تحوير ملامحها، بما يجعلها حاملة لبعد سحري وأسطوري موغل في زمنيته. يستخدم خلالها ألوان حيادية تتدرج بين الأسود والأبيض الكابي. تنتمي هذه الأشكال إلى تداعيات ذاتية بامتياز، شكّلتها عواطف الهجرة والمنفى فـ”العبيدي غادر العراق منذ ربع قرن، وهو مقيم في كندا”. أشكال لبيوت تتوزّع على السطح التصويري للوحاته، هي دلالة عن حنين لحضور في وطن لم يعد بالمستطاع العودة إليه. البيت الذي بات رديفا للغربة. أعماله هذه نفذت بمادة الحبر ومواد مختلفة على القماش. فيما جاءت تجربته الثانية، بسياق معاصر، أعمال تركيبية بصياغات نحتية مجسّمة لآثار تاريخية ذات سمة حضارية، أو أعمال واقعية تطغى عليها ملامحها الراهنة، تتخذ صفة مشروع فني، تتوزع في فضاء العرض، على شكل أعمال يحمل كل منها دلالته التي تعرّف به. ثلاثة أعمال تمثل الخراب والآلام والمآسي التي خلفها الغزو الأميركي للعراق عمل مجسّم لرجل وامرأة مقطوعي الذراع، تدفع الأم بطفلها المضطجع على عربة صحية للمعاقين، بينما يحاور الرجل طفل آخر تبدو عليه سمة التشرد، يحمل هذا العمل تسمية “عائلة عملية حرية العراق”، ونفّذ بمادة البرونز، يكتب الفنان في كاتلوج معرضه عن موضوعة عمله هذا “أطلقوا على الحرب، عملية حرية العراق، وانتهى الأمر بوجود 3.5 مليون معوق، و3 ملايين يتيم.. عندما أفكر بعائلة حرية العراق، فإنه يتحتم عليّ أن أنفّذ هذه المنحوتة، وأستخدم هذه المواد. فهي تقول: هذا ما فعلتموه بنا”. هناك عمل تركيبي آخر، ملوية سامراء في وضع مقلوب مشدود بحبل إلى تمثال الحرية الأميركي المعلق في السقف. رأس الثور المجنح الأشوري مثبت بحبال سميكة على الحوض الخلفي لسيارة حمل قديمة، وحمل هذا العمل عنوانا تهكميا ” فورد 71”، إشارة إلى موديل سيارة قديمة، كان وجودها شائعا في بغداد. تمثال الرئيس العراقي السابق في حالة سقوط وفي صورة مشابهة لتحاكي التمثال الذي أسقط في ساحة الفردوس في بغداد يوم دخول المحتل الأميركي، يحمل تسمية “من دون عنوان”. عرض يتألف من تماثيل سومرية صغيرة ولقى أخرى ومسامير تشير جميعها إلى نتاج الحضارة السومرية، بروفيل نحتي لرئيس الولايات المتحدة السابق جورج بوش تحيط برأسه الأحذية بما تماثل أوراقا لزهرة عباد الشمس وحملت عنوانا ساخرا ” قبلة الوداع”، والذي نفّذ بمادة البرونز. وكذلك نجد عملا مركبا حمل عنوان “تأثير البعوض” وهو يجسد طائرة حربية مقاتلة مرماة على الأرض، مشدود عليها تمثال لملك سومري مع سبطانة لمدفع دبابة. أعماله التركيبية هذه، احتفظت بشروط دلالتها للتعريف بتلك المقارنة، بين وطن يحمل عمقه الحضاري وفعل الاعتداء الذي تعرض إليه وأحاله إلى أرض يحترب عليها الموت، ويسكن بين أطلالها الخراب. ثمة حس سياسي حافل بالإدانة، يؤازره قدر من السخرية، أو التهكّم، وهو ما بيّنته عناوين وتسميات الأعمال الفنية في العرض، والتي يمكن التعاطي معها، كذلك، بدواعي معنى يلازم ذاكرة الفنان العبيدي، والذي لم ينته من التعبير عنه، في الكثير من تجاربه ومعارضه التي أقامها منذ أكثر من عقد من الزمن. يأتي معرض ” فتات” للفنان محمود العبيدي وكأنه استكمال لمشروع واظب على إنجازه، حيث عرض قبل شهر، وفي جاليري ساجي في لندن معرضه الشخصي الآخر والذي جاء بعنوان “بيان بغداد”، الذي حمل ذات الدلالات، بصيغة عرض أعمال فيديو آرت، وأعمال تنصيبية حاملة لذات التوتر وصورته التعبيرية، كاشفا من خلاله عن أحداث سياسية، وجرائم ارتكبها الجندي الأميركي متمثلا بتعذيب السجناء العراقيين في سجن أبو غريب. لقد مثل معرضه ذاك بيان إدانة لما حلّ بمدينته بغداد. بيان بات أكثر توصيفا في معرضه الأخير “فتات”. الفنان العبيدي ولد في بغداد في العام 1966، تخرج في كلية الفنون جامعة بغداد 1990، حاصل على شهادة الماجستير من غويلف/كندا، شارك في معارض دولية عديدة، كان منها معرضه الشخصي في بينالي البندقية عام 2015. كاتب من العراق :: اقرأ أيضاً يقظة ثقافية لا ثورة ثقافية عبد الخالق الركابي من ماركيز إلى دستويفسكي سعيد خطيبي: نحن جيل ملعون من الكتاب التشكيلي العراقي عمار داوود ومغامرة إحياء التراث الروحي
مشاركة :