محسن مهدي مفكر عراقي يستحضر فلسفة الفارابي في بحثه عن التمدن بقلم: سعد القصاب

  • 6/10/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

مهدي كان يؤمن بأنه من الممكن حقا الوصول إلى مغزى فكر كبار الفلاسفة والعلماء والأدباء عن طريق القراءة الجادة، والتأمل في معاني ما خلفوه من روائع الكتب.العرب سعد القصاب [نُشر في 2017/06/10، العدد: 10659، ص(13)]محسن مهدي مسحورا بخيال شهرزاد وحكاياتها تونس - عشرون سنة بحث خلالها في مكتبات إسطنبول، برلين، لندن، القاهرة، باريس، فاس، مراكش، ومكتبات في مدن أخرى، ليعلمنا بعدها أن الحكايات البغدادية الساحرة العتيدة في “ألف ليلة ولية” لم تكن بهذا العدد، بل هي لا تضم سوى مئتين واثنتين وثمانين ليلة. أما ما أضيف بعدها من حكايات وليال، فكانت من صناعة مستشرقي القرنين 18 و19، الذين أوصلوا عددها إلى “ألف ليلة وليلة”. المفكر محسن مهدي قام بتحقيق نسخة مجهولة لليالي العربية، كما أضاف لها دراسة علمية بين خلالها أن الطبيعة السردية للحكايات تسمح لها بأن تتوالد إلى حكايات لا تنتهي. صدر تحقيقه في ثلاثة أجزاء عام 1984 عن منشورات “بريل”، ليدن بهولندا. بين رفوف المكتبات تلك، وما قبل اهتمامه بالحكايات البغدادية، كان يفتش وينقبّ كذلك عن مخطوطات الفلسفة العربية الإسلامية لغرض تحقيقها ودراستها وتفسيرها. تعلّم من ابن خلدون أن التاريخ جزء من فلسفة السياسة بوصفها فلسفة إنسانية. ذلك ما دعاه للانتباه والاهتمام أكثر بالفيلسوف الفارابي (870-950) المعلم الثاني، بكونه أهم فيلسوف كتب في علم السياسة، وتدشينه لنسق من التفكير افترض مقاربة ما بين العلم والدين، وفي إطار السياسة التي هي فضاء لتعايش الأفكار والمعتقدات ولتعزيز هدف لا يخلو من الحكمة يتمثل بتحصيل السعادة. فأيّ طريقة في الحياة وأيّ علم في نظر الفارابي عوامل ضرورية للسعادة. تلميذ جواد علي ولد مهدي سنة 1924 في قضاء عين التمر بمحافظة كربلاء. وهو ذات المكان الذي ولد فيه الشاعر العباسي أبو العتاهية. أكمل دراسته الثانوية في الإعدادية المركزية ببغداد، وكان من بين مدرّسيه في مادة التاريخ المؤرخ جواد علي صاحب كتاب “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام-عشرة أجزاء”. درس الاقتصاد والفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، وهناك درّسه مادة التاريخ قسطنطين زريق والفلسفة شارل مالك، اللذين قال عنهما إن “كلاهما قدم لي ما يحتاجه الجامعي؛ الحماس لموضوع والشعور بأهميته الكبيرة لحياتنا الخاصة وحياة أمته”. تحصّل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة شيكاغو في سنة 1954، عن أطروحته “فلسفة ابن خلدون التاريخيةـ دراسة في الأساس الفلسفي لعلم الثقافة”، حينها أشرفت على أطروحته المستشرقة والمؤرخة التركية نابيا أبوت. وقد نشر تلك الأطروحة بكتاب في لندن في العام 1957. شغل مهدي منصب أستاذ في قسم اللغات والحضارات الشرقية في جامعة شيكاغو. وتقلد منصب أستاذ كرسي للدراسات العربية في جامعة هارفارد منذ سنة 1972 ولحين تقاعده في 1996. كما شغل مدير مركز دراسات الشرق الأوسط فيها. قام بأبحاث مابعد الدكتوراه في كل من جامعتي باريس وفرايبورغ. درّس في جامعات، بغداد وفرايبورغ ومركز الدراسات الإسلامية في كراتشي والجامعة الأميركية في القاهرة وجامعة كاليفورنيا وبوردو وفاس وجامعة محمد الخامس بالرباط. وكان رئيسا وعضوا في العديد من أقسام الدراسات ومراكز البحوث والجمعيات الدولية المختصة بتاريخ العلوم والفلسفة العربية الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط. كان مهدي باحثا أكاديميا مرموقا ومؤرخا مجتهدا في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية في عصرها الوسيط. وضع قواعد علمية للتحقيق في نصوصها، ونشر الكثير من كتبها المجهولة مع مقدمات تحليلية وبحثية مستفيضة ودراسات مقارنة عنها. منحته الجامعة الأميركية في القاهرة شهادة الدكتوراه الفخرية قبل شهر من وفاته في سنة 2007.الفلسفة السياسية في الإسلام تقوم في نظر مهدي على إشكاليتي بحث، الأولى معنية في أصول الحكم وأشكاله، أي السياسة الممكنة في الاجتماع الإنساني. والثانية تبحث في علاقة العلم أو الفلسفة بالشريعة. وهما المطلبان الفكريان اللذان يحتاجهما الفكر والواقع العربيان، أي إحياء ونشوء فلسفة سياسية إنسانية تجمع مابين الحكمة والشريعة أعاد الفيلسوف العراقي اكتشاف تراث الفيلسوف الفارابي، وبعثه في دائرة البحث والتأويل والقراءة، محققا ومترجما للعديد من كتبه، والتي كانت مجهولة وغير محققة في المكتبة العربية مثل “كتاب الملة” و”كتاب الحروف” و”كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق”. والكتابان الأخيران يذكر عنهما المفكر مهدي بكونهما “أظهرا اهتمام الفارابي بمشكلة اللغة وتطوّرها، وبمشكلة المصطلح العلمي والفلسفي، وهي مشاكل شغلت الفكر العربي المعاصر”. استرجاع الفارابي المؤسس للفلسفة السياسية التي تتردد في كتاباته بعبارات مرادفة، مثل الفلسفة المدنية والعلم المدني والعلم الإنساني، هو محاولة لإجراء تقارب بين العقيدة العلمية والعقيدة الدينية، كأحد الحلول الممكنة لمشاكل يشهدها العالم العربي الإسلامي، وجعل هاتين العقيدتين “أن يملكا علاقة متناغمة دون أيّ توترات داخلية”، أو كما يقول مهدي “أن يتعلما التسامح مع بعضهما البعض”. وستكون فلسفة السياسة الفضاء الأنسب لمثل هذا اللقاء. تقوم الفلسفة السياسية في الإسلام، في نظر مهدي على إشكاليتي بحث، الأولى معنية في أصول الحكم وأشكاله، أي السياسة الممكنة في الاجتماع الإنساني، والثانية تبحث في علاقة العلم أو الفلسفة بالشريعة. وهما المطلبان الفكريان اللذان يحتاجهما الفكر والواقع العربيان، أي إحياء ونشوء فلسفة سياسية إنسانية تجمع مابين الحكمة والشريعة. وكما بيّن آثارها فلاسفة آخرون مثل ابن باجة وابن رشد وابن خلدون. كان افتقار مثل هذا المبحث في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية قد نشأ حينما ابتعدت هذه الفلسفة عن واقعها وعقلانيتها وتخلت عن التفكير في أصول الحكم والسياسة، مقتربة من التصوف، ومتجهة أكثر إلى علم الكلام والفقه. لذا بات على الفكر العربي أن يجتهد أكثر في التعرف على تراثه الفلسفي. كان مهدي يؤمن بأنه “من الممكن حقا الوصول إلى مغزى فكر كبار الفلاسفة والعلماء والأدباء عن طريق القراءة الجادة، والتأمل في معاني ما خلفوه من روائع الكتب”. مقولة الاستشراق بخلاف المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد لا يجد مهدي أن الاستشراق علم مستقل. بل آراء وأفكار هي نتاج خلاصات في الفلسفة والفكر الغربيين. وهو أطروحة متغيرة ومتبدلة بأثر التحولات التي يعيشها الفكر الغربي وتطوراته والتغيرات التي تطرأ عليه. إن موقف المستشرق هو أيضا نتاج تأثير بآراء وأفكار “في محيطه العلمي عن الحضارات الأخرى”، ولكن من دون تلك الغايات التي يتأملها الشرقي أو العربي في قراءته لتراثه، سواء على مستوى الإصلاح أو التجديد.الفنان العراقي ضياء العزاوي تعاون عام ١٩٨٦ مع محسن مهدي لخلق مرادفات بصرية لـ "ألف ليلة وليلة" ويقول العزاوي عن تلك التحربة إنها "رسوم متخيلة، أشكال وخطوط من وحي واحد" لكن من طبيعة الاستشراق، في كونه ينظر إلى الحضارات غير الغربية كحضارات سابقة تطورت ثم خمدت، وهي رؤية عيّنها موقع حضارته المعاصرة التي استمرت في تقدمها. إن المستشرق الغربي، اليوم، لا يبحث مثلا في تأثيرات الفكر العربي على الفكر الأوروبي في العصر الوسيط، لأنه أمسى اتجاها مسكوتا عنه، جراء الصراع والتطلع ومحاولات عربية إلى استقلال فكري وسياسي عن الغرب. فهناك من ينكر استقلال هذا الفكر، والبعض “يحاول أن يظهره بمظهر المعادي للحضارة والتقدم والعقلانية”. مثل هذه الآراء والاتجاهات هي ما يغذي، كذلك، موقف المثقف الغربي من الحضارات غير الغربية عامة. خيال شهرزاد تحول التوجه البحثي والمعرفي لدى مهدي من التحقيق بفلسفة الفارابي إلى تحقيق ألف ليلة وليلة، أو “الليالي العربية”، جراء اهتمام متزامن بالفكر السياسي عند العرب، من مؤرخين وفقهاء ومتكلمين إلى آراء العامة بالسلطة والحكم والمجتمع. يقول مهدي بأنه لازال ينظر إلى كتاب ألف ليلة وليلة “كوثيقة تبين لنا آراء عامة الناس في هذه الأمور”. ذلك ما دعاه للبحث فيها عن التركيب الأدبي، اللغة، الحالات الاجتماعية، الاتجاه الأخلاقي، والرؤية الحضارية. وهو الأمر الذي لا يتم إلا باعتماد نص محقق وأصيل يعرف زمانه ومكانه، وليس طبعات ملفقة تشبع رغبة العامة وتسليهم. إن أهمية كتاب “الليالي العربية” تتأتى بالتعرف على تاريخ اللغة العربية وتاريخ لهجاتها، والعلاقة ما بين الفصحى والدارج من الكلام. ودراسة أسلوب الحكاية والمستوى اللغوي المستعمل في سردها، عدا ما تمثله من معين تاريخي يتمثل في الكشف عن النواحي الاجتماعية والنفسية والفكرية في عصرها. إنها نوع آخر من الحكايا التي يؤطرها السحر والخيال الفريد. في العام 1986 تعاون الفنان ضياء العزاوي مع محسن مهدي لإصدار مجموعة محددة النسخ لأعمال طباعية تتمثل الحكايات الجديدة المحققة وفضاءاتها الغرائبية، مستلهما عناصر جمالية للفن العربي الإسلامي في العصر الوسيط. قال العزاوي عن هذه التجربة إنها “رسوم متخيلة. أشكال وخطوط من وحي واحد. وأنا أخذت الأكثر إثارة من ناحية الشكل البصري وبنيت عليه قاعدة تصوراتي”. يقول مهدي “تزعم شهرزاد أنها تتحدث عن أحداث ماضية، وفي الحقيقة هي تتنبأ بأحداث قادمة. وهي تتكلم عن مخاوف وآمال وعن كوارث قادمة وعن نهاية سعيدة ونتائج مبهجة”.

مشاركة :