... في المرة الأولى لـ «عدم المعرفة»، وفي المرّة الثانية لـ «كثرة الأخلاق»، لكن النتيجة كانت واحدة... «حزب الله» يحول ولمرتيْن دون وصول أكثر الأوفياء له الى رئاسة الجمهورية. إنه سليمان فرنجية الذي اقترح اسمه الرئيس الشهيد رفيق الحريري لرئاسة الجمهورية العام 2004 على قاعدة الاختيار بين «السيئ والاسوأ» تجنُّباً للتمديد للرئيس إميل لحود بقوّة الضغط السوري. الرئيس بشار الأسد بدا مهتماً باقتراح الإتيان بصديقه فرنجية رئيساً للجمهورية لكنه بعث الى الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله يسأله فكان جواب الأخير «لا نعرفه كفاية»، وتالياً حُرم فرنجية من الرئاسة. وفي نوفمبر 2015 رشّح الرئيس سعد الحريري بمبادرة رسميّة فرنجية، الذي صار حليفاً موثوقاً من «حزب الله» للرئاسة، كمخرجٍ لكسْر مأزق التعطيل، لكن الحزب حرم وللمرة الثانية «سليمان بك» من بلوغ القصر عبر فرصة كانت شبه محسومة. ورغم أن فرنجية ردّد على مسامع نصرالله، في لقاء جمعهما على وهج مبادرة الحريري، وأكثر من عشر مرات «إنها فرصتي»، فإن الأمين العام لـ «حزب الله» أكد التزامه بدعم العماد ميشال عون، وقال لفرنجية «ما زلتَ شاباً والمستقبل أمامك». وبغض النظر عما أشيع يومها عن نقْزة قيادة «حزب الله» من الدعم السعودي – الفرنسي لمجيء فرنجية و«الكيمياء» المستجدّة في العلاقة بين الأخير والحريري، فإن نصرالله اضطر الى وصف فرنجية بـ «نور العين» تجنباً لأزمة الثقة بينهما. وعارفو فرنجية يقولون إنه أمضى أياماً كـ «رئيس» يتهيّأ للانتقال الى القصر الجمهوري قبل أن يحبط «حزب الله» آماله بالوصول الى الرئاسة، التي يقال في لبنان إنها تشكل حلماً لكل مسيحي ماروني. ولم يشأ فرنجية، الذي يدخل البرلمان الإثنين كمرشح قوي، الانسحاب من السباق، بل قرر خوض مواجهة لإبراز رصيده، وهو سيتصرّف من الآن وصاعداً كـ «رئيس مؤجَّل» الى ما بعد نهاية عهد العماد عون. وبلوغ فرنجية «حافة الرئاسة» جاء تتويجاً لمسيرة شاقة ميزت سيرة هذا الزعيم الزغرتاوي (نسبة الى مسقطه زغرتا) تعكس في جوانب منها الأهوال التي عاشها لبنان، خصوصاً أبان الحرب الأهلية. ففي ذاكرة الذين يحبّونه، هو ذلك الطفل ابن الـ 12 المرتمي في حضن جدّه الرئيس سليمان فرنجية، إثر اغتيال والديه طوني وفيرا فرنجية وشقيقته جيهان، الذين قضوا في مجزرة إهدن العام 1978. وفي ذاكرة الذين يناصبونه العداء، هو حليف سورية وصديق بشار الأسد، والصديق المقرّب لشقيقه الراحل باسل الأسد والمُجاهر دائماً بحلفه مع النظام السوري الحالي. وهو بالنسبة الى جيل من الشباب الذين يوالونه، صيّاد ماهر يجوب بلدان عدة في رحلات صيد متنوّعة، عارضاً ما اصطاده في بيته الجبلي، ومدافع عن البيئة ويحافظ على غابات مدينته ويسعى الى حماية إرثها التاريخي. ومصوّر محترف، يهوى التصوير الفوتوغرافي ويوثّق رحلاته والطبيعة المحيطة به صُوَراً يحفظها بعناية. وهو أيضاً الشاب الوسيم الذي تَزوّج، بعد زواج اول أنجب منه ابنيه طوني وباسل، مذيعة تلفزيونية معروفة هي ريما قرقفي، فأنجب منها ابنته فيرا، وشكل معها ثنائياً ناجحاً ومحبوباً، علماً انها تتولى نشاطات ثقافية كمهرجان «اهدنيات»، واجتماعية كرئاستها لجمعية تعنى بمرضى التوحد. سليمان طوني فرنجية (مواليد 18 اكتوبر 1965) ابن نائب ووزير، وحفيد رئيسٍ للجمهورية، وهو سليل عائلة سياسية «إقطاعية» طبعت حياة زغرتا ولبنان، وقدّمت ايضاً وزير الخارجية الراحل رجل الاستقلال حميد فرنجية، شقيق الرئيس سليمان فرنجية ووالد النائب السابق والقيادي في قوى 14 آذار سمير فرنجية. ابن الثانية عشرة الذي قُتل والداه وشقيقته في مجزرة إهدن، تربّى في زغرتا حيث كانت الحرب تعصف بلبنان وبالساحة المسيحية التي عرفت في اوائل الحرب سلسلة عمليات أمنية داخلية سمّتها «القوات اللبنانية» آنذاك بقيادة بشير الجميل قبل ان يصبح رئيساً للجمهورية «عملية توحيد البندقية». وكان بشير يريد قيادة موحدة للميليشيات المسيحية في مرحلةٍ شهدت خلافات بين أركان «الجبهة اللبنانية» التي كانت تضمّ القيادات المسيحية والمارونية تحديداً. وجاءت مجزرة اهدن، لتحرم سليمان الحفيد من عائلته، فتربّى في كنف عائلة كبيرة يشرف عليها جدّه الرئيس فرنجية وجدّته السيدة ايريس، وعمّه روبير وعماته اللواتي كنّ فاعلات في تلك المرحلة وخصوصاً السيدة صونيا فرنجية الراسي. بين زغرتا واهدن، البلدة الصيفية لزغرتا، وحيث قضت عائلته في 13 يونيو 1978، نشأ سليمان فرنجية، محاطاً بتضامن أهل زغرتا الذين وحّدتهم المجزرة وألغت خلافاتهم السياسية التقليدية، فاحتضنوا «ابن البيك والست فيرا». ويصعب الحديث عن سليمان فرنجية اليوم من دون استعادة المرحلة حين كانت زغرتا معزولة عن باقي المناطق وعن بيروت وعن العمق المسيحي في جبل لبنان، بفعل الانقسام المسيحي الداخلي، وسيطرة «القوات اللبنانية» عليها. اذ ان تلك المرحلة هي التي ساهمت في تعميق أواصر الصداقة بين عائلة فرنجية وعائلة الرئيس السوري حافظ الاسد. تَتلْمذ سليمان فرنجية على يد جدّه، فبدأ يتدرّج بإشرافه في عمله السياسي داخل زغرتا كمدينة وقضاء على السواء. وعمل على توثيق علاقاته في مسقطه والشمال، متبعاً الخط الذي رسمه الرئيس فرنجية والتحالفات التقليدية التي تربطه بزعامات شمالية كعائلة كرامي في طرابلس. متّن فرنجية الحفيد علاقته بسورية، بفعل ارتباط جدّه ايضاً بعائلة الرئيس حافظ الاسد، وربطتْه صداقة متينة بنجل الأسد باسل، حتى انه سمّى ابنه الثاني باسم باسل. عُيّن فرنجية الحفيد نائباً العام 1991 بعد اتفاق الطائف ليكون حينها أصغر نائب في المجلس النيابي وكان بعد في الـ 26 من عمره. وبوفاة جدّه العام 1992، بات زعيم العائلة والمدينة، وبدأت رحلته منذ ذلك الوقت مع السياسة اللبنانية نائباً ووزيراً ومرشحاً لرئاسة الجمهورية مع كل استحقاق. لا يمكن اختصار «بروفيل» فرنجية بتواريخ نيابته او توليه وزارات عدة منذ العام 1992 حتى تاريخ اعلانه انه سيتنحى عن النيابة ويسلّم مقاليدها الى نجله البكر طوني. لان فرنجية بوصفه احد الزعماء الموارنة الاربعة الحاليين، يتمتّع بخصوصية تختلف عن الزعماء الآخرين، فزعامته الزغرتاوية أسّست لحالة سياسية محصور تأثيرها في الشمال، او في زغرتا تحديداً، لكن تحالفاته ولا سيما منها في مرحلة ما بعد 1990، جعلت منه اسماً لا بد منه في الحياة السياسية المارونية العامة، على طريق الأسماء المرشحة لرئاسة الجمهورية. بعد العام 1990، اي تاريخ اتفاق الطائف الذي ايّده الرئيس فرنجية، انطبعت حياة فرنجية الحفيد السياسية بوجهيْن، وجه داخلي وآخر سوري، وهما تماهيا احياناً. اذ ان فرنجية سلك طريق جده بالحفاظ على العلاقة مع عائلة الاسد، في وقت كان النظام السوري يمسك بمقاليد السلطة في لبنان عبر حلفائه، ولا سيما في عهد الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، ورئاسة الرئيس رفيق الحريري لحكومات المرحلة السابقة. وشكّل فرنجية أحد أركان السلطة في تلك الحقبة. وبفعل زعامته الشمالية وعلاقته مع النظام السوري، تحوّل رقماً صعباً وأساسياً في كل الحكومات المتتالية، الى ان تولى وزارة الداخلية العام 2004، وشاءت أقداره ان يتمّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 وهو على رأس هذه الوزارة. مرحلة 1990 - 2005، شهدت صعوداً مطرداً للنائب الشاب، الذي تمرّس بالسياسة تدريجاً. وفي تلك المرحلة كان مسيحيو «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» لاحقاً، ممنوعين من ممارسة عملهم السياسي. وكان العماد ميشال عون في المنفى والدكتور سمير جعجع في السجن، والرئيس امين الجميل في المنفى ايضاً، فتحوّل فرنجية أحد أبرز الوجوه المارونية السياسية الفاعلة على الساحة السياسية. ولعب دوراً فاعلاً في عهد حكومات الحريري وكانت تربطه به علاقات جيدة، بخلاف الصورة التي أُعطيت عنه لاحقاً، وكان حاضراً بقوّة في الحكومات، سياسياً وخدماتياً، لا سيما انه تولى وزارات خدمات عدة منها الصحة والإسكان والبلديات والزراعة. وفي مرحلة العام 2000 -2005، اي المرحلة التي تَطوّر فيها دور البطريركية المارونية تحت قيادة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وصعود نجم لقاء «قرنة شهوان» المعادي للوجود السوري في لبنان، كان فرنجية على خصومة مع بكركي. كان دائماً يردد «ان البطريرك رئيسي الديني ولكن ليس رئيسي في السياسة». علماً ان فرنجية كان أوّل مَن وصل برفقة جده الرئيس فرنجية الى المقر الصيفي للبطريركية في الديمان، حين ترك صفير بكركي وانتقل اليه العام 1990، بعدما هاجمته مجموعة من «التيار الوطني الحر» واعتدت عليه نتيجة الخلاف حول اتفاق الطائف الذي غطّته الكنيسة. العام 2004 حصل تَحوّل أساسي في مسيرته، عندما تسلّم وزارة الداخلية التي تولت التحضير للانتخابات النيابية التي كانت المعارضة المسيحية قررت خوضها. وعملت وزارة الداخلية حينها على فتح ثغرة في جدار الأزمة، من خلال الإعداد لقانون انتخابي لا يمتّ الى «قانون المحادل» الذي كانت تعترض عليه هذه القوى والذي عُرف بـ «قانون غازي كنعان». في تلك المرحلة ربطت فرنجية علاقة ايجابية مع البطريرك صفير، عندما اعتمد فرنجية قانون 1960 كقانون انتخابي، وهو ما شكّل خطوة مفاجئة لحلفاء سورية وخصومها، لانه كان سيسمح للمسيحيين باختيار نوابهم بعيداً عن التأثيرات السورية والمحادل. إلا أنه تعرض لهجوم قاسٍ عندما اغتيل الحريري، وبدأت معركة فعلية لإخراج سورية من لبنان. ورفعت له صور كمتهَم سياسي بوصفه وزيراً للداخلية. وشن مؤيّدو الحريري حملة سياسية وإعلامية شرسة ضده دفع ثمنها من رصيده الانتخابي. وبعدما خرجت سورية من لبنان في ابريل 2005، أجريت الانتخابات على أساس قانون العام 2000، وخسر فرنجية مقعده النيابي. وكان قد عاد في تلك المرحلة الى مخاصمة بكركي وصفير تحديداً، وصولاً الى إطلاق مناصريه هتافات «انت البطرك يا سليمان» في احدى التظاهرت التي جرت لدعمه، بينما كان يدعو البطريرك الى ان «يتطلع بنا قليلا، ونتمنى عليه ان يكون فوق الجميع». وبين عام 2005 -2009، لم تكن المرحلة سهلة على فرنجية في ظل حرب داخلية ضده وخروج سورية من لبنان، وبدء الحملة الدولية ضدها. وصار «بروفيل» هذا المرشح الرئاسي هدفاً بذاته، شنّ عليه «تيار المستقبل» هجوما صاعقاً واستهدفه سياسياً في شكل مستمر. ومع عودة عون الى بيروت (مايو 2005) وخروج جعجع من السجن (يوليو 2005) استعاد المسيحيون زعاماتهم، بدأت زعامة فرنجية تعود الى حجمها الضيق. وانكفأ زعيم «المردة» حتى العام 2009، حين عاد الى البرلمان بعدما وثّق علاقاته مع حلفاء سورية، كحزب الله والرئيس نبيه بري، وفعّل علاقته مع العماد ميشال عون كحليف، وانضمّ ممثلوه الى «تكتل التغيير والاصلاح». فرنجية المرشح الرئاسي، دعم في البداية ترشيح عون للرئاسة، وكان كلما سئل عن ترشيحه يجيب «انا أدعم عون وحين يقرر الجنرال ألا يترشح، أترشح أنا». وقد وقف الى جانب «الجنرال» منذ اللحظة الاولى لعودة الأخير، وربطته في بداية الطريق علاقة جيدة مع صهر عون الوزير جبران باسيل، لكن فرنجية لم يرغب ان يدخل العونيون عقر داره فرفض ترشيح اي عوني في زغرتا، وحاول قدر الامكان إبعادهم عن الشمال. وتدريجياً بدأت علاقته تسوء مع باسيل وهو ما انعكس سلباً على صلاته مع عون. اما علاقة فرنجية مع «القوات اللبنانية» فظلت محكومة بشبح مجزرة اهدن، وعنها يقول فرنجية: «لم أنس ولكن (سامحتُ قتلة عائلتي)». الا ان ما بينه وبين جعجع لا يمكن ان يصبح من الماضي. فرئيس (القوات) ينفي علاقته بالمجزرة بل يؤكد إصابته قبل وصول المجموعة الكتائبية الى اهدن، لكن بالنسبة الى تيار (المردة)، فجعجع هو المسؤول اولاً وآخراً. مع مفارقة ان فرنجية بنى علاقة جيدة مع رئيس حزب (الكتائب) امين الجميل (ونجله النائب سامي) رغم ان حزب الكتائب هو الذي أمر بتنفيذ مجزرة إهدن. جمعت لقاءات بكركي فرنجية وجعجع حين دعا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي القيادات المارونية الاربعة عندما تولى السدة البطريركية الى لقاء رباعي في ابريل 2011. لكن اللقاء الاول بين فرنجية وجعجع، الذي تركزت الأنظار عليه، لم يبدّل شيئاً في قناعات الخصمين. لا بل ان حرب سورية والانقسام الداخلي اللبناني حولها زاد في الشرخ بين فرنجية وقوى 14 آذار. وظل زعيم «المردة» يجاهر بصداقته لسورية وللرئيس الاسد، وبخصومته السياسية لفريق 14 آذار، وتحالفه مع «حزب الله» وخط المقاومة. وفي الأشهر الأخيرة، بدا ان فرنجية يميّز نفسه عن الإطار السياسي الذي يقوم به عون، في أكثر من مجال، سواء لجهة تسيير عمل الحكومة او إطلاق عجلة التشريع في البرلمان وظلّ بعيداً عن التشنّج في العلاقات التي حكمت علاقة عون بتيار «المستقبل» في الآونة الأخيرة. قبل أن يبادر الحريري الى ترشيح فرنجية. يحضّر فرنجية نجله طوني للنيابة. يسلّمه مفاتيح اللعبة الشمالية والزغرتاوية. لكنه لا يريد ترك العمل السياسي. فالمرشح للرئاسة في زمن الوجود السوري، عاد اسمه مطروحاً في زمنٍ يتعرض فيه النظام السوري لحرب هي الاولى من نوعها. وعلاقته المستجدة مع الرئيس سعد الحريري فتحت التكهنات، حول مستقبل العلاقة بين الطرفين خصوصاً أنها طوت مساراً من الخصومة عمره عشرة أعوام كانت بدأت تتغير في العام 2010 بعد ترؤس الحريري الحكومة، حين زار بنشعي والتقى رئيس تيار «المردة» بناء على دعوة من الأخير. لكن بعد خروج الحريري من الحكومة بانقلاب فريق 8 آذار عليه، ووقوفه الى جانب المعارضة السورية، عادت الخصومة بين الرجلين، قبل أن يفضي المسار الرئاسي الى إعلان الحريري مبادرته ترشيح فرنجية الذي لم يكتمل النصاب السياسي - الدستوري لمعركة وصوله، ما حدا بالحريري الى «المخاطرة» بإعلان تبني عون، دون ان تتأثّر علاقة زعيم «المستقبل» بفرنجية الذي وصفه بأنه «صديق مدى العمر». وشكلت مبادرة الحريري ترشيح عون منعطفاً في المسار السياسي الحالي لفرنجية الذي مُنيت علاقته بالعماد عون بانتكاسة حادة جعلتهما يتواجهان وجهاً لوجه في جلسة انتخاب الإثنين، وبانتكاسة مماثلة مع «القوات اللبنانية» ورئيسها سمير جعجع الذي سارع الى تبني عون قطعاً للطريق على وصول فرنجية للرئاسة، رغم أن علاقة «المردة» و«القوات اللبنانية» كانت تجتاز بنجاح مرحلة تطبيع على المستويين السياسي والشعبي.
مشاركة :