معضلة السجناء: رياضيات الأخلاق تُعتبر عملية تفسير السلوك البشري من الألغاز المحيّرة في العلم الحديث. ففي حين يتسم أغلب أعضاء مملكة الحيوان بسلوك بالإمكان فهمه بسهولة نسبية، يتحلى البشر بمميزات معقدة يصعب تقديم تفسير مادي لها كالإيثار والكرم وغيرهما من الأخلاقيات التي قد تبدو متناقضة مع كون البشر نتاج عملية تنافس أزلي اسمها التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي. العربحسن مازن [نُشرفي2016/10/31، العدد: 10441، ص(12)] سلوك الفرد مكتوب في جيناته بعد اعتقالهما، وضعت الشرطة كلا من محمد وزياد في غرفة معزولة مانعة عليهما الاتصال بأيّ طريقة كانت، في محاولة لدفعهما للاعتراف بما اقترفاه. وحيث أن الشرطة لم تكن تمتلك دليلا يُدين كِلا المتهمين بأكثر من سنة على الرغم من ارتكابهما لجُرم من المفترض أن ينالا عليه عقوبة أقسى، وبمسعى لتحقيق العدالة المنشودة قام أحد مُحققي الشرطة بتقديم العرض الآتي للمتهمين: في حال قام أحدهما بالشهادة ضد زميله ستقوم الشرطة بإطلاق سراح الشاهد وسجن الآخر ثلاث سنوات، أما لو قام كلاهما بالشهادة فسيسجن كل منهما عامين اثنين، على أن يُسجنا لمدة عام واحد فقط إذا قرر كلاهما التزام الصمت. في كل الأحوال ليس باستطاعتهما أن يتواصلا مع بعضهما بأيّ طريقة كانت. وقد يبدو خيار السكوت والخروج بسنة سجن واحدة الخيار الصائب في هذه المسألة، لكن الحقيقة أن مفوّض الشرطة أوقع المُتهمين في فخ لا يستطيعان الخروج منه بأقل من سنتين سجنا لو فكرا بعقلانية. نظرية الألعاب نموذج رياضي مناسب لدراسة الكثير من الحالات الاقتصادية التي تتضمن المنافسة بين شركات للسيطرة على السوق ليس سوى لعبة إن مثال السجناء هو مثال شهير يُضرب عادة لتقريب فكرة نظرية الألعاب في الرياضيات. حيث يتنافس اثنان أو أكثر من اللاعبين لاختيار أفضل خيار ممكن يجنبهم خسائر أو يعود عليهم بالأرباح، مفترضين دوما أن المنافسين يفكرون بعقلانية وأنانية على حد السواء. بالعودة قليلا إلى معضلة السجناء، يبدو أنه من السذاجة التفكير بغير السكوت والخروج بسنة واحدة سجنا لكلا المُتهمين. لكن التفكير بتمعن قليلا سيوضح كيف أن المحقق أدخل المُتهمين بدوامة لن يخرجا منها إلا بسنتين سجنا على الأقل. تخيل نفسك في غرفة معزولة عن زميلك ولديك الخيار بالشهادة ضده أو الوثوق به والسكوت. لنقلّب الاحتمالات قليلا، ماذا لو قررت أن تسكُت فيما قرر زميلك أن يبوح بسركما ويُحمّلك المسؤولية، ساعتها ستواجه عقوبة السجن لثلاث سنوات فيما ينال هو البراءة. هل من المنطقي أن تضع حريتك رهينة بيد شخص آخر؟ ماذا لو تكلّمت أنت؟ ستكون أمام فرصة الخروج بريئا وفي أسوأ الأحوال ستتجنب قضاء ثلاث سنوات من عمرك حبيسا تلوم نفسك على الوثوق بشخص لا يستحق الثقة. بالتأكيد فالخيار الأمثل هو أن تتكلم وتشهد ضد زميلك وتنتظر ماذا سيفعل هو. وبافتراض أن كلا السجينين سيفكران بنفس العقلانية، فإن مفتش الشرطة ضمن أن يقضيا كلاهما عقوبة السجن لمدة عامين بدل عام واحد بدهاء رياضي. محاكاة أكثر واقعية للحياة البشرية بالنظر إلى المسألة مرة أخرى سنرى أن كلا المتهمين يبحثان عن الوصول إلى نقطة توازن تجعلهما يضمنان أقل خسارة ممكنة (أو أعظم ربح في حالة أخرى). إن الوصول لهذه النقطة في نموذج ألعاب كمثال معضلة السجينين يُمثل الحل لهذه المعضلة. تُمثل نظرية الألعاب نموذجا رياضيا مناسبا لدراسة الكثير من الحالات الاقتصادية التي تتضمن المنافسة بين شركات أو منظمات أو غيرها تهدف للسيطرة على السوق في مجال معيّن. ليس هذا وحسب فنظرية الألعاب، وكما مرّ بنا في مثال السجناء، قد تقدم نموذجا رياضيا لدراسة السلوك البشري، لكن إلى أيّ مدى تتصف هذه الفكرة بالواقعية؟ لا يفكر البشر عادة بنفس الطريقة التي وضّحناها في معضلة السجناء، بل على العكس، حيث أثبتت البعض من التجارب والإحصاءات بأن البشر في موقف مشابه لموقف السجناء يميلون إلى اختيار السكوت وعدم طعن الزميل في الظهر ممّا يشكّل تحديا حقيقيا لمحقق الشرطة الذي طمع في إيقاع المتهمين في الشّرك. لكن لماذا لا يفكر البشر بمنطقية؟ وكيف يفكرون إن وضعوا في موقف مشابه؟ هل بإمكان نظرية الألعاب مساعدتنا فعلا على فهم السلوك البشري حقا؟ البقاء للأصلح منذ نشر تشارلز داروين كتاب “أصل الأنواع” في منتصف القرن الثامن عشر لم تكفّ نظرية التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي عن إلهام الباحثين والعلماء في مختلف العلوم لتقديم حلول مستوحاة من الفكرة العامة للنظرية في مجالات مختلفة. فمن الأفكار المطروحة لتفسير تشكّل الكون إلى دراسة أصل الحياة ونشأتها وليس انتهاء باستخدام الخوارزمية التطورية في حلّ نماذج ومعادلات رياضية، تُقدم فكرة دارون العبقرية، والبسيطة في نفس الوقت، الدليل بعد الدليل على قابليتها الكبيرة لتقديم تفسيرات والمساعدة على فهم الكثير من الظواهر في مختلف العلوم. ستيفن ستروكاتز: تفسير السلوك البشري يمكن أن يكون عبر نظرية الألعاب وبالاعتماد على فكرة الانتخاب الطبيعي تقوم نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي على عنصرين مهمّين أوّلهما هو الطفرات الوراثية، والتي بالإمكان التعبير عنها بأنها تغيرات عشوائية تحدث للتسلسل الجيني في الكائن الحيّ، وهذا هو الجزء العشوائي من العملية. في حين أن العنصر الثاني يلعب دور المُوجه لهذا السيل الجارف من التغيرات العشوائية، إنه الانتخاب الطبيعي. عملية الانتخاب الطبيعي هي فكرة قاسية لو نظرنا إليها بعين إنسانية رحيمة، فما معنى أن يهلك كل من لا يقوى على مقاومة متغيرات الحياة؟ لكن ما يثير الحيرة بحق ليست قسوة الانتخاب الطبيعي بقدر كيف لكائن تطوّر عبر هذه العملية القاسية أن يمتلك هذا الحس الرحيم لدرجة أنه يستنكر قساوة العملية الأم التي أدت لنشوئه. هل إنسانيتنا نابعة من مصدر آخر لا علاقة له بفكرة دارون عن تطور الكائنات الحية؟ يقترح علم النفس التطوري، وهو من فروع علم النفس التي تحاول أن تدرس سلوك البشر بالاعتماد على فكرة تطورهم عبر الأجيال، أن السلوك البشري مثله كمثل باقي أعضاء الجسم البشري جرت عملية انتخابه طبيعيا. وبحسب علم النفس التطوري فإنه بالإمكان فهم السلوك البشري من خلال النظر إلى البيئة الأصلية التي تطور بها البشر وهي سهول السافانا. بناء على ذلك، بالإمكان تفسير الشعور الإنساني على أنه آلية تُساعد البشر على البقاء. بعبارة أخرى فإن قبيلة معزولة في سهول السافانا محاطة بالمفترسات وتعاني من صراع دائم لتوفير مستلزمات العيش من غذاء وما شابه، نجد أن عناصر هذه القبيلة أحوج ما يكونون للتعاطف في ما بينهم والتعاون لتخطي صعاب العيش. وبخلافه فإن هذا العرق معرّض للانقراض ومورّثاته معرضة للضياع، حيث أن تعاون القبيلة في ما بينها للصمود بوجه التحديات يعني بالضرورة القيام بصيد بعض الحيوانات ومنافسة القبائل الأخرى على مستلزمات العيش مما يقود إلى الانقراض الكثير من الأنواع الحيوانية أو الأعراق والقبائل البشرية. هذا بالتالي يقودنا لأن ننظر إلى الغريزة الإنسانية على حقيقتها الأنانية النابعة من التنافس وصراع البقاء على عكس ما تبدو عليه. ومن حيث أن السلوك البشري بالإمكان تفسيره من خلال التنافس وبقاء الأصلح، كما يقترح علم النفس التطوري، فإن الأمر يستدعي أن نتوقف قليلا عند النموذج الرياضي للصراع والتنافس، نظرية الألعاب. حريتك رهينة بيد شخص آخر في مقابلة له مع “بزنس إنسايدر” (بتاريخ 8/6/2016)، أشار أستاذ الرياضيات في جامعة كورنل في أميركا البروفيسور ستيفن ستروكاتز إلى إمكانية تفسير السلوك البشري عبر نظرية الألعاب وبالاعتماد على فكرة الانتخاب الطبيعي. وقد ساق نفس معضلة السجناء لتبسيط الفكرة. في العام 1980 قام روبرت ألكساندر، وهو باحث سياسي، وبمساعدة فريق من علماء مختلفي التخصصات بإنشاء نموذج لمحاكاة معضلة السجناء. تقوم فكرة البرنامج على أن المعلومات تتدفق بحرية بين السجينين، فبالإمكان أن يعرف أيّ من المُتهمين عندما يخونهما زميلهما أو بالعكس، وهذا على خلاف الحالة التي أوردناها في بداية المقال والهدف منها هو محاكاة أكثر واقعية للحياة البشرية وليست تجربة خاصة يخضع لها المتهمون خلال التحقيقات. ولنتذكر فقط أن البرنامج الحاسوبي الذي تمت كتابته لا يتمتع بأيّ حس أخلاقي إنما هو مُبرمج ليفوز في اللعبة فقط. والنتيجة كانت أن الأشخاص الذين يفوزون في هذه اللعبة يجب أن يتمتعوا بثلاث صفات تبدو “أخلاقية”. أولا أن يبتدئوا الآخرين بالمعاملة الحسنة فلا يشوا برفاقهم قبل معرفة نواياهم، ثانيا العين بالعين والسن بالسن، أي أن من يشي بك عليك الإسراع للوشاية به وتخليص نفسك من السجن لثلاث سنوات واستبدالها بسنتين فقط، أما الصفة الثالثة فهي التسامح، عفا الله عمّا سلف، فعندما يسحب صديقك وشايته عليك أن تسحب وشايتك أنت الآخر لتخرجا كلاكما بعقوبة مخففة وبخلافه فإنه سيعود ليتمسك بوشايته فتقضي سنتين بالسجن بدل سنة واحدة لو عفوت عن خيانته الأولى. من الواضح أن هذه الصفات الثلاث التي توصلت لها محاكاة ألكساندر هي صفات مُحببة في الكثير من المنظومات الأخلاقية البشرية والغريب في الأمر أن الكمبيوتر لا يتمتع بأيّ حس أخلاقي ووجدها كحلّ لمعضلة السجناء. بكل تأكيد فإن الحياة الواقعية ليست بهذه البساطة حيث يعتري التواصل بين البشر سوء الفهم في بعض الأحيان إضافة إلى الأحكام المسبقة وغيرها من التحيزات العاطفية، لذلك فإن القيم الأخلاقية البشرية تشمل الكثير من التعقيد الذي لا تُظهره نتائج محاكاة ألكساندر. لكن على الأقل من حيث المبدأ، فإن النظر إلى نتائج محاكاة ألكساندر بمنظور الانتخاب الطبيعي وعلم النفس التطوري قد يعطينا نموذجا رياضيا لكيفية نشوء وتطور السلوك البشري وكيف تولّد لدينا الحس الإنساني عبر الصراع والمنافسة. بل أكثر من ذلك قد يكون بالإمكان تجهيز ذكاء صناعي ما بهذا الحس الأخلاقي في أحد الأيام، فبالنهاية الأمر لا يعدو كونه عملية حساب للربح والخسارة ولا شيء أكثر من ذلك. يبدو أن فكرة داروين العبقرية التي فسرت التنوع الإحيائي من قبل بإمكانها أن تعطينا أكثر من ذلك، من خلال تفسير السلوك البشري تفسيرا بسيطا لا يُميّز البشر عن غيرهم من أعضاء المملكة الحيوانية. وقد يبدو هذا محبطا بعض الشيء وجارحا لنرجسيتنا كبشر، لكن الحقيقة أن هذا التفسير يعطي لأخلاقنا بعدا آخر ليس بإمكان باقي التفسيرات الطوباوية، بما فيها الدينية، أن تقدمه. إنه بعد الانتماء الكامل لشركاء الحياة على هذا الكوكب ابتداء من البكتيريا غير حقيقية النواة إلى أبناء عمومتنا في مملكة الحيوان. كاتب عراقي :: اقرأ أيضاً الموبايلات تمحو معالم شارع عبدالعزيز في القاهرة
مشاركة :