< كلمة «الإفلاس» كانت موجة عالية في كلام نائب وزير الاقتصاد غطت على غيرها مما ورد في المقابلة التلفزيونية الشهيرة التي أجراها داود الشريان في قناة MBC، ومما لم يلق اهتمام المعلقين الإشارة إلى قوله «خطأ التوسع في التعليم الجامعي في المرحلة الماضية»، على رغم أهمية هذا القطاع وارتباطه بمستقبل الوطن وتقدمه وتطور قدرات أجياله. والحديث عن التعليم الجامعي ودوره «قديم جديد»، بحسب الناظر وزاوية الرؤية، ما يدل على انشغال غالبية المجتمع بقضاياه ونتائجه. وقبل 20 عاماً نشرت مقالة في صحيفة «المدينة» إثر سماعي شابين من خريجي الثانوية يقول أحدهما لزميله: «إنني أعجب لكثير من كتاب الصحافة، ينصحوننا بالتوجه إلى المعاهد المهنية ومراكز التدريب، وإذا سألت عن أولادهم تجدهم في كليات الآداب والاقتصاد والعلوم الإدارية، بل إذا قصّرت قدراتهم عن دخول المنافسة وفق شروط القبول ألفيت الوالدين (الكتّاب) يسارعون إلى ذوي الشأن في الجامعات يبذلون ما يستطيعون حتى يضمنوا لأولادهم الشهادة». وقلت حينها: إذا تجاوزنا ما في حوار الشابين من اتهام لا يخلو من بعض الحقيقة – فإن الموقف يشير إلى إشكال لم يحسم بعد حيال التعليم الجامعي، ونظرة سريعة على الصحافة المحلية تكشف مدى اهتمام المجتمع بمشكلات القبول وحجم الاستيعاب في جامعاتنا، ومستوى الخريجين ومدى تلبية التخصصات الجامعية لمتطلبات التنمية، وإلى أي مدى يمكن للدولة توفير وظائف لجميع الخريجين، وخطورة ازدياد عدد الباحثين عن العمل بعد التخرج، إلى غير ذلك من مواضيع. ولأن الموضوع ليس أمراً موسمياً ينشغل به الناس فترة الصيف ثم ينسونه في برد الشتاء، بدا لي أن أسأل: هل التعليم الجامعي ضرورة مرتبطة بالبحث عن الوظيفة؟ أم هو «مشروع» للذات يوفر لها شرط وجودها وتوازنها وقيمتها؟ وهل هو مطلب عند الكثيرين منا لا يرتبط عندهم بتوفير العمل باعتباره جزءاً من مكونات شخصياتهم ومؤهلاتهم الحياتية ومن حقهم الحصول عليه من دون إلزام المجتمع بضمان ما بعد التخرج؟ تلك الأسئلة المطروحة قبل 20 عاماً لا تزال تراوح مكانها بحثاً عن إجابة «عملية» تحدد وجهة الرؤية المستقبلية للأجيال المتتابعة، وعلى رغم قناعتي بأهمية التخطيط، فإن نظرتي للتعليم الجامعي متحررة من الارتهان لمنطق «السوق»، فالتعليم، بصفة عامة، ليس «رخصة» تبيح لنا الدخول في سوق العمل، فهو أعظم شأناً عند الذين يرونه مطلباً «إنسانياً» لا يقل عن الغذاء والكساء، بل هو في كثير من الأحيان مقدم على ترف العيش وبذخ الثياب، ومن حق طالبيه والقادرين عليه أن يحصلوا منه ما يتوافق مع رغباتهم وإمكاناتهم الذهنية، ومن مقاييس رقي المجتمعات وتحضرها ما تفسحه من مجالات علمية وثقافية لبنيها والمقيمين على أرضها، وتثبت التجارب أن التخطيط «الضيق» الصارم لمناهج التعليم ومعاهد العلم يخلق «عمالاً» ولا ينتج «العلماء»، ومن البديهي أننا نحتاج العلماء لقيادة العمال، وهذا ليس معناه أن الفوضى وتجاهل التخطيط هما سنن التعليم، فهذا ما لا يقول به عاقل يدرك طبيعة العصر ووسائله وبرامجه. وقلت حينها إن فتح آفاق التعليم الجامعي أمام القادرين الراغبين لا يتناقض مع «أن يكون جزءاً من التعليم خاضعاً لشرط التخطيط الذي يقتضي تحديد التخصصات والمقبولين فيها ومستقبل الذين ينخرطون في برامج التعليم المخطط، ويكون الجزء الآخر من التعليم خاضعاً لقانون العرض والطلب، وهنا تتسع الدائرة للكثير من النشاطات العلمية والفكرية والفنية التي يتطلبها المجتمع ولا تستطيع الدولة توفيرها ضمن موازناتها، لكنها لا تتخلى عن وظيفة الإشراف والتوجيه من خلال الدوائر المختصة، ويصبح اعتماد المجتمع على الدولة في توفير هذه «الحاجات» العلمية والفنية قصوراً يدل على نقص فهم هذا المجتمع لمسؤولياته». وأكدت ضرورة توفير المعاهد والكليات التي تلبي متطلبات التنمية، وسن القوانين والأنظمة والحوافز التي تشجع الراغبين في هذه الدراسات. وطالبت بفتح المجال أمام القطاع الخاص لدخول ميدان التعليم الجامعي وفق الضوابط والشروط العلمية، وأشرت إلى أن تجارب القطاع الخاص في التعليم ما قبل الجامعة تثبت أهلية هذا القطاع للعمل متى ما توافرت الشروط العلمية والإشرافية، بحيث تتصدر الكثير من المدارس الخاصة نتائج الامتحانات العامة في قطاعي تعليم البنين والبنات، وليس هناك سبب موضوعي واحد يحول دون تكرار النتائج نفسها في التعليم الجامعي، إذا توافرت له الأسباب التي من أهمها الضوابط العلمية التي تضعها الجهات المختصة وتشرف على تنفيذها. وإذا اقتنعنا بانعدام الخلل العلمي والتربوي - تحت مظلة الإشراف - فلا أرى مبرراً يحول دون الاستفادة من رساميل وطنية تبحث عن الربح في أرضها، وتسهم في حل ما يواجه الراغبين في استكمال دراساتهم الجامعية وتساعدهم في تحقيق هذا الهدف، ومتى ما توافرت الكليات الملبية لرغبات القادرين على تسديد الرسوم سيتوجه إليها الكثيرون من المواطنين والمقيمين، وفي هذا فوائد جمة منها: تخفيف العبء على الجامعات الحكومية للمحافظة على مستواها العلمي، وإفساح المجال أمام الأستاذ الجامعي لإعطاء جزء من وقته للأبحاث العلمية. تمكين غير القادرين على السفر للخارج من الدراسة الجامعية في بلادهم، وفي زيادة المتعلمين رفع لمستوى الوعي الاجتماعي والتقدم العلمي باعتباره تراكماً يضاف إلى رصيد البلاد العلمي. إفساح المجال لآلاف الطلاب من أبناء المقيمين في بلادنا لاستكمال دراساتهم الجامعية، إذ بات هذا الوطن يشكل قيمة عاطفية في نفوسهم، ومن الخسارة أن نفقد مشاعرهم في مرحلة الدراسة الجامعية، بحيث تتبلور الأفكار وتتحدد المشاعر. إعطاء الجامعات الحكومية الفرصة لزيادة المنح لطلاب الدول العربية والإسلامية تماشياً مع سياسة الدولة الرامية إلى النهوض بمسؤوليتها تجاه العالم الإسلامي وهو أمر ذو أهمية لمواجهة تلك الدعوات الظالمة التي يوجهها البعض ضد بلادنا ويجد في بعض الأحيان آذاناً صاغية في غياب المعلومات وتدني مستوى التعليم في الكثير من البيئات الإسلامية. هذه نقاط طرحتها قبل 20 عاماً ويبدو لي أن غالبيتها لا تزال حاضرة على رغم ما تحقق على هذا الطريق. * كاتب سعودي. mohalfal@
مشاركة :