المستعرب الفرنسيّ أندريه ميكيل يقدّم في كتابه خلاصة دقيقة ومكثّفة لاختياراته ورؤيته للّغة العربية وأدبها وتاريخهما وآفاق دراستها الممكنة. العرب [نُشرفي2016/11/03، العدد: 10444، ص(15)] الجغرافيّا بحثا استكشافيّا وأدبا في آنٍ معا أبوظبي - يشارك مشروع كلمة للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة في معرض الشارقة الدولي للكتاب من 2 إلى 12 نوفمبر 2016، بعرض جميع إصداراته التي بلغت 900 كتاب، وتزامنا مع هذه المناسبة ظهرت إلى النور ترجمة عربيّة قام بها الباحث والمترجم المغربيّ محمّد آيت حنّا لكتاب “العالَم والبُلدان: دراسات في الجغرافيا البشريّة عند العرب” للمستعرب الفرنسيّ أندريه ميكيل، تضمّنتها سلسلة كلاسيكيّات الأدب الفرنسيّ التي يُصدرها المشروع ويشرف عليها ويراجع ترجماتها الشاعر والأكاديميّ العراقي المقيم بباريس كاظم جهاد. عُرف ميكيل بتعدّد مجالات اهتماماته، التي يدور أغلبها حول الثقافة العربية، وقد ترجم إلى الفرنسية أشعار العديد من قدامى الشعراء العرب ودرسَ أعمالهم، كما عُني بالحكايات العربيّة فترجمها إلى لغته، وحلّل كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقّفع، وأعاد بالتعاون مع جمال الدين بن شيخ، ترجمة “ألف ليلة وليلة” في صيغتها الكاملة، ووضع سيرة روائيّة لمجنون ليلى، وألّف العشرات من الدراسات في الـتاريخ العربيّ- الإسلاميّ وفي حضارة الإسلام، انصبّ جزء كبير منها على الجغرافيا البشريّة عند العرب، ووضع في هذا المجال أطروحة لدكتوراه الدولة، صارت جزءا أوّل لسفر من أربعة أجزاء ضخمة تشكّل بمجموعها أحد أكثر الأعمال الغربيّة اتساعا وثراء عن العرب، حملت العنوان الجامع “الجغرافيا البشريّة في العالَم الإسلاميّ حتّى منتصف القرن الحادي عشر الميلاديّ”، وتوالى صدورها من 1973 إلى 1988. وبالرّغم من كون هذا الكتاب ما برح موضع تداول وانتشار، حيث أعيد طبعه في عهد قريب، وقد قرّر ميكيل أن يعيد سكبه في صيغة مكثّفة، موجّهة إلى الأدباء وعموم القرّاء، وصدرت في 2001. ليس من الهيّن اختزال مادّة كتاب يغطّي ألفي صفحة إلى صيغة جديدة لا تتجاوز مئة صفحة ونيّفا. بيد أنّ ميكيل، بحسّ التكثيف المعهود لديه، نجح في الرّهان، وركّز اختيار موضوعاته، من حيث مقاربة العرب للعالَم، على تصوّرهم للحدود والبحار والجبال والمدن، ومن حيث مقاربتهم للبلدان الغريبة أو الأجنبيّة، ركّز على ما كتبوه عن الهند والصّين واالقسطنطينيّة وروما وبقيّة أوروبا. وقد أضيفت إلى هذا الكتاب الذي يقدّمه مشروع “كلمة” ترجمة لنصّ درس ميكيل الافتتاحيّ في كوليج دو فرانس، الذي يلخّص فيه اختياراته ورؤيته للّغة العربية وأدبها وتاريخهما وآفاق دراستها الممكنة، وفي نهاية الكتاب أضيفت ترجمة لثلاث دراسات أخرى له، تكمّل فصول “العالَم والبلدان”، وتذهب في البحث إلى ما بعد منتصف القرن الحادي عشر الميلاديّ. ميكيل يسلط الضوء بألمعية وسخاء، على الثقافة العربية المتكاملة التي يتضافر فيها الجغرافيّ مع التاريخيّ واللغوي ليس هذا الجمع بين الأدب والجغرافيا، الذي يميّز الكتاب، بالشيء الغريب، بل هو يقيم في صُلب مشروع أندريه ميكيل، الذي يعدّ هذه الجغرافيّا بحثا استكشافيّا وأدبا في آنٍ معا. أدب يُعرب عن مهارات أسلوبية ونظرة متفرّدة وإن لم يضعه كتّاب كبار. كما لم يضعه علماء مختصّون، بل بحّاثة معنيّون بالمعرفة الملموسة، يسافرون إلى بلد لوصفه ويحيطون بما كتبه أو قاله عنه آخرون. في دراسته لمصنّفات هؤلاء، حقّق ميكيل عدّة اكتشافات أساسيّة. في أوّلها الشغف بالاكتشاف لدى هؤلاء الجغرافيين في حقبة أفولٍ انكفأ فيها العالم الإسلاميّ على نفسه وتشظّت دار الإسلام، وبدأ يغمرها ركودٌ لا يرى هو فيه انحطاطا أو تراجعا للفكر حقّا. هذه النّصوص هي نوع من نهضة يُقام بها على خلفية خسارة، ضوء مبهر يشعّ في سماء حالكة. على خلفيّة الأفول هذه، أنجز الأعمالَ رجال عظام، من موسوعيين وجغرافيين ورحّالة أخذوا على عاتقهم تدوين حضارة بكاملها، وعكسوا تصوّرهم لعالَمها ولعوالم الآخرين، ولمُجمل العالم والكون. قاموا بذلك خوفا عليها من الضّياع. هي اندفاعة قصوى، وثْبة حيّويّة خلّاقة أحيت أجناسا قديمة وابتكرت صنوفا أخرى من الكتابة. كما يسلّط ميكيل الضّوء بألمعيّة وسخاء، على ثقافة متكاملة يتضافر فيها الأدب الجغرافيّ مع اهتمام تاريخيّ وموسوعيّ ولغويّ وفنّي، بوصف رفيع ودقيق. ووراءها تقف ذوات ومواهب فذّة، مع تعلٌّق خاصّ من قبَل ميكيل بالمقدّسي الجغرافيّ، وابن بطوطة الرحّالة، وابن خلدون المفكّر في التّاريخ والمجتمعات، كلّ منهم كان رائدا في مجاله وصانعا لجنس أدبيّ على أساس بدايات وسوابق متواضعة. ولد أندريه ميكيل في مدينة ميتز الفرنسيّة المتوسّطيّة في 26 من سبتمبر 1929. نال شهادة التّبريز في نحو الفرنسيّة واللّاتينيّة واليونانيّة القديمة في 1953، وتنقّل لفترةٍ بين دمشق ونواكشوط والقاهرة للتعّمق في دراسة العربيّة، ثمّ لممارسة وظائف ثقافيّة. علّمَ في عدّة جامعات فرنسيّة اعتبارا من 1962، ثمّ انتُخب أستاذا في المعهد المرموق “كوليج دو فرانس”، في كرسيّ اللّغة والأدب العربيين الكلاسيكيين (1976-1997)، ثمّ مديرا عامّا للمكتبة الوطنيّة بباريس، ثمّ مديرا عامّا لكوليج دو فرانس. وضع سبعين كتابا والعشرات من المقالات برز فيها كاتبا سرديّا ومترجما ومحلِّلا للشّعر والنثّر العربيين القديمَين. :: اقرأ أيضاً جوائز وتكريمات في أول أيام معرض الشارقة الدولي للكتاب زمالة بانيبال للكاتب الزائر في دورتها الأولى أيمن حسن: هوية الكاتب انتماؤه الكوني
مشاركة :