تسعى الولايات المتحدة إلى تشويه أي هدنة إنسانية تعلن عنها روسيا، وتضعها في دائرة الشك، بينما التخطيط يجري لقلب الطاولة عسكريا في سوريا. ومن ضمن "الاستهتار" غير المسبوق، أعلنت واشنطن أن السلطات الأمريكية ستقوم بالنظر في نتائج "الهدنة الإنسانية" التي أعلنتها روسيا في حلب. واعتبرت أن "الهدنة الإنسانية" في حد ذاتها لا معنى لها في حال استئناف القصف بعدها، وأن ذلك لا يعني سوى أن "الروس يريدون السماح للمدنيين بمغادرة المدينة قبل استئناف الضربات". تصريح في غاية التناقض والخبث. وكأن الولايات المتحدة تشترط بأن تعلن روسيا هدنة دائمة وأبدية في ظل تسلل الدواعش من العراق إلى سوريا، وعلى خلفية حصول المعارضة وبقية التنظيمات الإرهابية على أسلحة ثقيلة ومضادة للأهداف الجوية. هذا في الوقت الذي أعطت فيه قوات التحالف الأمريكي "مهلة" عظيمة للإرهابيين لكي يغادر قسم لا بأس به منهم الموصل قبل الهجوم عليها. إن الولايات المتحدة ممتعضة وغير راضية عن الهدنة الروسية في حلب، لأنها تهدف إلى إخراج المدنيين من هناك لكي لا يقع ضحايا بينهم، ولكي يتم الفصل عمليا بين المدنيين وبين المسلحين من مختلف الفصائل والتنظيمات. وهو ما فشلت الولايات المتحدة فيه، أو بالأخرى، رفضت أن تقوم به وفق الاتفاقات والوعود. لقد فاجأنا وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر، وبعد أن كانت واشنطن تؤكد قدرتها على قطع الطريق على انتقال الإرهابيين من العراق إلى سوريا، فاجأنا بأنه لا يستبعد أن تتسلل هذه العناصر من الموصل إلى الأراضي السورية. وتمهيدا لعملياتهم العسكرية المقبلة في سوريا، قال كارتر: "قد يتمكن المسلحون من الهروب إلى سوريا إلا أننا سنقضي عليهم هناك". وإذا كان هذا المسؤول العسكري الكبير قد اعترف بأن خطة تحرير الموصل ظهرت إلى الوجود منذ أكثر من عام، فمعنى ذلك أن الهجوم الوشيك على الرقة موجود على الأوراق منذ نفس الفترة تقريبا. وهنا لا يمكن أن نتجاهل الأسباب الحقيقية لقيام الولايات المتحدة وتحالفها بتعطيل تحرير حلب، ووضع كافة المعوقات أمام القوات الروسية لمكافحة الإرهاب في سوريا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا دخلت الولايات المتحدة طوال العام الأخير في مفاوضات ومباحثات، وأطلقت تصريحات ووعودا، بينما خططها العسكرية جاهزة؟ وهل هذا مرتبط بدعم قوى مسلحة بعينها، ووضع خطط أبعد تتعلق بالعاصمة السورية دمشق نفسها؟ أما تركيا فهي تعمل على عدة محاور عسكرية، مع الالتزام بخط سياسي دبلوماسي جعلها تتفادى الانتقادات من القوى الكبرى، وتفرض نفسها على "الميدان" بأقل التكاليف. ومع تمسكها بمسألة مصير الرئيس بشار الأسد وإصرارها على موقفها منه، وهو الموقف الذي تتفق معها فيه الولايات المتحدة ودول إقليمية أخرى، نراها تحشد على حدودها مع العراق، وتعلن ضرورة مشاركتها في أي عمليات عسكرية وسياسية هناك، ونسمع يوميا تصريحات حول تقدمها في شمال سوريا، وإعلاناتها المتوالية عن مناطق آمنة، وعن مدن ومناطق سورية يجب أن تقوم القوات التركية "بتحريرها". الغريب أن البنتاغون قال "نحن لا نعمل في الوقت الحالي مع تركيا على إقامة منطقة آمنة على الحدود.. ولا نعتقد بأن منطقة آمنة من شأنها أن تحل القضايا الأساسية على الأرض، لأن القتال على الأرض مستمر". أي أن وزارة الدفاع الأمريكية تغسل يدها من خطط تركيا بشأن إقامة مناطق عازلة، وفي الوقت نفسه تغمض عينيها عن تنفيذ أنقرة هذا السيناريو، لأنه في نهاية المطاف سيخدم قوات التحالف الأمريكي من جهة، وقد يدق إسفينا بين تركيا وروسيا في أي مرحلة من مراحل الصراع المقبلة من جهة أخرى. وفي نهاية المطاف يقوم أيضا بخدمة التوجه العام لسيناريوهات واشنطن نحو "دمشق"، ونحو وضع الرتوش النهائية على مغامرات الصقور الأمريكيين التي قد تصطدم بإرادة روسيا، أو تشعل حربا تتضح معالمها تدريجيا. وعلى الرغم من إنكار البنتاغون التعاون مع القوات التركية بشأن "المناطق الآمنة"، إلا أن وزير الدفاع الأمريكي أكد أن خطة تطويق الرقة والسيطرة عليها ستتم قريبا، وأن المحادثات مستمرة مع تركيا بشأن الدور الذي يمكن أن تلعبه، و"لكننا نمضي قدما الآن في العملية وفقا لخطتنا". وفي الواقع فالدور الذي يتحدث عنه كارتر، هو دور محتمل، ويعتمد بالدرجة الأولى على شروط قاسية متبادلة بين الولايات المتحدة وتركيا من جهة، ويتوقف أيضا على طريقة تفكير الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من جهة أخرى. وبالتالي، فعلى الرغم من أن تركيا تتحرك بانسيابية وبدون عوائق في كل من العراق وسوريا، إلا أن المرحلة المقبلة قد تشهد إما مواصلة هذا النسق من الحركة، أو عوائق وصراعات وتصريحات ساخنة. وفي الحقيقة، فموقف تركيا المقبل سيصبح أكثر حساسية، وربما يصطدم بإرادات كثيرة. معركة الرقة المقبلة، ستحدد الكثير من الأمور، وتوضح الخطوات المقبلة. ولكن من الصعب أن نتصور إمكانية التحالف الأمريكي مع الأتراك، أو بدونهم، على ما يسمى بـ "تحرير الرقة" من دون نجاح القوات الروسية في تحرير حلب، وضبط الأمور سياسيا مع الولايات المتحدة، لأن المشهد سيكون مشهدا عسكريا بامتياز. هذا المشهد العسكري سيبتعد تدريجيا عن مكافحة الإرهاب، وسيتحول إلى مشهد آخر تماما من حيث طبيعة الصراع والمواجهة، وسنرى التنظيمات الإرهابية تتمتع بالدعم المادي واللوجستي، وربما سترفع شعار "الخلافة" ولكن تحت الراية الأمريكية الأوروبية التي تحرص دوما على دعم "الخلافة" في شمال القوقاز وأفغانستان، ودعم "الخلافة" في الشيشان، ودعم أي خلافة في أي مكان يمكن استثماره ضد روسيا، وتقديم كل المساعدات الإنسانية والقانونية والعسكرية من أجل "إقامة تلك الخلافة والحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها !". هنا تتضح أبعاد التساؤل الذي طرحه مؤخرا وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو حول ما إذا كان حلف الناتو والولايات المتحدة يحاربان الإرهاب فعلا، أم يحاربان روسيا!!. والأخطر هنا أيضا أن حديث الولايات المتحدة بشأن ما وصفته بـ "القوات العربية" التي ستحرر الرقة، وبقية المهمات المكلفة بها في سوريا، هو حديث غامض، ولا أحد يعرف بالضبط هوية هذه "القوات العربية" وأهدافها، ومن يقف وراءها، وماذا يريد داعموها وممولوها في سوريا؟ والخوف أن تكون هذه القوات "أممية" لتذكرنا جميعا بما كان، وما سيكون.. أشرف الصباغ
مشاركة :