يقوم الكون بالعين البشرية على المفارقة، وتقوم الرياضيات أيضا على المفارقة، وكذلك الأدب وهذه السطور ومعها كل ما يمكن أن يثير الدهشة. العربإبراهيم الجبين [نُشرفي2016/11/04، العدد: 10445، ص(24)] عجبتُ لمن يرى هذه الدنيا، كيف تسير على تروس ومسننات مثل الآلة، ومع ذلك يخلخل ميزانها باجتهادات عشوائية. ولو تركت الأمور لمنطقها الطبيعي، لسارت على خير ما يرام كما لو أنها رياضيات. وأهم ما في الرياضيات أن مجتمعها لا يتضايق من وجود الحمقى. فهؤلاء لهم مستوى من العمليات الحسابية يصلون إليه، وبعدها يتوقف إبداعهم. أما من هم فوقهم بعقول مفتوحة، فلهم شأن آخر. وقد قرأت مرة، أنه وفي أواخر القرن السادس عشر، وفي برونشفايغ، إحدى قرى ساكسونيا الألمانية، كان طفل يدعى غاوس قد رفع يده ليجيب على سؤال لمدرس الرياضيات. فأذن له، فأجاب وجلس، ثم طرح الأستاذ سؤالا آخر، فأجاب غاوس. ولما طرح الأستاذ السؤال الثالث، فوجئ بأن غاوس هو الوحيد الذي يعرف. انزعج الأستاذ أيّما انزعاج، واعتبر أن غاوس يشوش عليه، ويحرمه من فرصة تدريس بقية الطلاب الذين كانوا أقل ذكاء من الطفل الشقي بالمعرفة، فقرر أخيرا أن يضع حدا لغاوس. أمره بأن يجمع الأعداد من 1 إلى 100 ليتخلص منه لوقت طويل، ريثما يكمل إعطاء الدرس للتلاميذ. ولكن، وبعد خمس دقائق فقط، رفع غاوس يده قائلا: سيدي المجموع هو 5050. فغضب الأستاذ وصفع غاوس على خدّه، صارخا: هل تسخر مني؟ أين العمليات الحسابية التي أجريتها؟ بكى غاوس وقال لأستاذه: لم أكتب أي عمليات حسابية، جرّبت فاكتشفت أن هناك علاقات بين الأرقام. بين الـ99 والـ1 وبين الـ98 والـ2 وبين الـ97 والـ3. وكلها مجموعها يساوي مئة. فعرفت الناتج بسرعة. يوهان كارل فريدرتش غاوس صار في ما بعد، واحدا من أعظم ثلاثة علماء رياضيات في التاريخ. بينما لا نعرف اليوم ماذا كان اسم أستاذه العصبي، ولا أي واحد من زملائه في الصف. لم ينشأ غاوس من تلك الصفعة، بل ربما قامت بتأخير عبقريته وخلخلت ثقته في نفسه، ولعله لو لم يتلقاها لكان اليوم أعظم مما عرفنا عنه. ولطالما شعرتُ أن أجمل العلوم هي الرياضيات. عالمها افتراضي حقيقي في الوقت ذاته، لا يزعجك فيه أحد. تشبه الرسم في الطبيعة وتشبه العزف على الناي. لكنها بأنغامها المنتظمة، تدوزن كل شيء حولك. يقوم الكون بالعين البشرية على المفارقة، وتقوم الرياضيات أيضا على المفارقة، وكذلك الأدب وهذه السطور ومعها كل ما يمكن أن يثير الدهشة. لكن الرياضيات تشتق تلك المفارقة التي توحي بالتناقض، من التركيب اليوناني “بارا” و”دوكسا” والذي يعني في تأويل من تأويلاته “إلى جوار الإيمان”. ولو أننا وضعنا إلى جوار إيماناتنا فكرة ما، دون تعصّب، لتوصلنا ربما إلى فكر خلاق جديد في كل شأن. لا يوجد في الرياضيات سنّة ولا شيعة ولا من يحزنون. ولا سود ولا بيض. لا كراهية ولا أحقاد. إذا ما نفع تلك العراقيل التي نضعها أمام أطفالنا، ونحن لا نعلم ما في أعماق كل منهم؟ فقد يكون مختبئا، في ذلك الداخل الصغير البعيد، كون رياضي شاسع شديد الأناقة. إبراهيم الجبين :: مقالات أخرى لـ إبراهيم الجبين أطفالكم وصفعة غاوس, 2016/11/04 يوفال نوح هراري عالم مستقبليات إسرائيلي يتنبأ بأننا سنقهر الموت قريبا, 2016/10/30 ماضي المستقبل , 2016/10/28 أهل الموصل بين رحى تحريرين 1959 - 2016, 2016/10/23 تفييش الهوامش, 2016/10/21 أرشيف الكاتب
مشاركة :