الذين يفكرون ويكتبون في المستقبليات، فهؤلاء يضعون تنبؤاتهم للقادم من الزمان، كما يفعل المنجمون. لكنهم يستعملون العلم بدلا من مواقع النجوم وبروج السماء. العربإبراهيم الجبين [نُشرفي2016/10/28، العدد: 10438، ص(24)] أكثر كلمة يسمعها المرء في أوروبا بين الأوروبيين أنفسهم، هي “تقشف” تليها على سلّم الاستعمال كلمة “توفير”. وحين يسمع إنسان الشرق هذه اللغة، يظن أنه يعيش في قارة جرداء قاحلة. ولولا شقار الوجوه وبياض البشرات لظننا أننا في الصحراء الأفريقية. بالمقابل، يتصرف سكان الشرق على أنهم ورثة كنوز الأرض، فلا همّ ولا تفكير في الآتي. يشعرك أحدهم حين يتحدث وكأنه يخبئ تحت البلاطة دنانير الذهب التي تناقلها أجداده من أيام غيمة هارون الرشيد الشهيرة. لكن الفارق بين الذهنيتين هنا، ليس فارقا ثقافيا. وربما لعبت الجينات تحت جلد كلٍ منهما، دورا في إثارة ذعر هؤلاء من الغد واسترخاء الآخرين حياله. فتاريخ القارات القديم يمكنك من تخيّل صعوبة الحياة وسط الثلوج والموارد الشحيحة. أو تخيّل الشمس والربيع والأنهار الجارية في جنة المشرق المنسيّة. تمشي في بوليفارد عملاق ما، فترى العروض التوفيرية. فإذا بها تحاول إغراءك بتوفير بضعة سنتات تكاد لا تساوي شيئا، فتتحسّر على الوقت الذي ضيعته في قراءتها. بينما لا أحد في الشرق يحدّثك عن التوفير. إذ لا يوجد شيء رخيص هناك أصلا، اللّهم إلا الإنسان. غير أننا برعنا في التقشف في أمور أخرى، فلا توجد أمة أكثر منا تقشفا في التفكير. ذلك أننا نوفر الطاقة اللازمة له، ونشغّل العقول بأقل استطاعة ممكنة، لذلك تبقى عقولنا جديدة، من قلة الاستعمال. أما الذين يفكرون ويكتبون في المستقبليات، فهؤلاء يضعون تنبؤاتهم للقادم من الزمان، كما يفعل المنجمون. لكنهم يستعملون العلم بدلا من مواقع النجوم وبروج السماء. والعلم إذاك، كي يصبح مسهّلا لرؤية الغيب، يحتاج إلى الكثير والكثير من الخيال. برز لدينا من هؤلاء العالم المغربي الراحل المهدي المنجرة، الذي سبق صموئيل هنتنغتون إلى اكتشاف نظرية “صدام الحضارات”. والذي كتب يوما إن “تاريخ العالم ليس سيرورة. ولكنه صراع مستمرٌ بين الحضارات”. كتاب المنجرة “الحرب الحضارية الأولى ـ مستقبل الماضي وماضي المستقبل” وصف فيه، ما جرى في المشرق العربي بأنه مسٌّ بقيم التسامح العالمية، وتفجيرٌ لصراع بين ماضويين متشددين غربيين وشرقيين. قال المنجرة إنها حرب أعيد إشعال فتيلها في العام 1975 عندما أصدر بابا الفاتيكان إحصاء يحذّر من تزايد عدد المسلمين في الكوكب. لكننا نتقشف أيضا في الخيال، رغم أن أرضنا أرض الخيال البراح. لم يسمح لأحد باستعمال خياله يوما ما، فالرسّام منحلٌ، والشاعر صاحب ربابة يمدح هذا ويشتم ذاك. والمفكر مكفّر. من، ونحن هكذا، سيجرؤ على الكتابة في المستقبليات؟ حتى أن الرواة يروون أن رجلا زعم، أيام العباسيين، أنه نبيٌ جديد. فأُلقيَ القبض عليه. وساقه العسكر إلى الخليفة المهدي الذي سأله ساخرا: وإلى من بُعثتَ؟ فقال الرجل مستنكرا: أوَ تركتموني أبعثُ إلى أحد؟ بُعثتُ في الصباح واعتقلتموني في المساء. ولو تركوه لكنا رأينا إلى أي شعبٍ بُعثَ وماهي رسالته بالضبط. من باب العلم بالشيء، لا أكثر ولا أقل. إبراهيم الجبين :: مقالات أخرى لـ إبراهيم الجبين ماضي المستقبل , 2016/10/28 أهل الموصل بين رحى تحريرين 1959 - 2016, 2016/10/23 تفييش الهوامش, 2016/10/21 مكانس الساحرات , 2016/10/14 اهتمامات, 2016/10/07 أرشيف الكاتب
مشاركة :