أحار في نفسي، أبحث عنها، أريد أن أعرفها على الواقع الصحيح غير المشوش والمدلس، أريد أن أعرف حقيقة من أنا، حتى أتوجه الوجهة الصالحة التي تناسبني، فلا أكلف نفسي فوق طاقتها، ولا أهضم مع ذلك حقها وميزاتها. عندما يسأل الإنسان عن ذاته ويحاول اكتشافها قد يشعر بالدوار والتعب، ومع ذلك قد لا تتأتى له النتائج التي يتطلع إليها، ويبقى بعد ذلك في دوامة السؤال والبحث التي لا نهاية لها، مع أنه على السطح ظهرت بعض الأساليب الحديثة لاكتشاف الشخصية والتعرف عليها من خلال الإجابة على عدد من الأسئلة، إلا أنني أُأكد أنه سيبقى البحث مستمراً عند بعض الشخصيات، التي لن تقتنع ولن تكتفي مهما ظهر لها من طبيعتها. لعلي أضيء هذا الجانب مما تهيأ لِي من أفكار وقناعة، ولكن في البداية يجب أن نتفق بأن النفس البشرية أعقد من يفهمها عقل الإنسان، ولكنها مع ذلك لا تستعصِ في بعض جوانبها على الفهم. إن النفس البشرية تُفصح عن ذاتها من خلال ثلاث مناطق متفاوتة في الوضوح: (1) المنطقة البيضاء: وهي المكشوفة سلفاً، ولا تحتاج إلى أي جهد لاكتشافها، وإن أي محاولة لذلك هو من قبيل الاطمئنان، ليس أكثر. (2) المنطقة السوداء: وهي المنطقة التي تستعصِ على الفهم، مهما بذلنا من جهد ومحاولات في سبيل ذلك، فهي تبقى في علم الله وحده، وهذا من دلائل عظمة الله وقدرته. (3) المنطقة الرمادية: وهي التي وسط بين المنطقتين البيضاء والسوداء، فلا هي واضحة كل الوضوح، ولا هي غائبة إلى الأبد، وإنما يجدي معها البحث نفعاً، ونَصلُ معه إلى نتيجة. والمنطقة الرمادية يمكن أن نقسمها هي الأخرى إلى قسمين: رمادية فاتحة، وأخرى غامقة، فأما الفاتحة فهي التي يمكننا الوصول إليها وفهمها دون الحاجة إلى التجربة واقتحام الواقع، فوسائلٌ كاستشفاف أراء المقربين وانطباعهم عني، يمكن أن تعطي دلالات لطبيعتي ومن أكون، وكذا التفكير والتأمل في الذات، عادةً ما يجلب معه قدراً لا يُستهانُ به من المنفعة والفائدة في ذلك، على أنه ينبغي علينا التنبه إلى أنه يمكن أن نكون في المنطقة الرمادية الغامقة التي لا ينفع معها التفكير، وإنما تحتاج فوق ذلك إلى التجربة، فالتجربة وحدها هي التي يمكن أن تضيء هذه المنطقة وتكشف خباياها. وفي سبيل الوصول إلى غايتنا في فهم ذَواتنا ينبغي أن يكون صلاح النية وسلامة المقصد هو زادنا الأول في هذه الرحلة، لأننا أمام مهمة من أصعب المهام التي يمكن أن توكل إلى إنسان، وأن التدرج هو الأمر الذي لا مفر لنا منه في سبيل الوصول إلى غايتنا، إذ أن الحقائق لا تأتينا دفعة واحدة، ولكننا نستلهمها على الأحرى قطرة قطرة. إن الجدوى المتوقعة من كل ذلك هي التي تدفعنا دفعا إلى البحث والاكتشاف، في عصر يموج بآلاف التخصصات، ويسحب البساط شيئا فشيئا من تحت أقدام كل من ليس له نصيب من ذلك.
مشاركة :