التاريخُ مخزن هائل لكتّاب الرواية كما هي مخازن الواقع والخيال؛ وهناك (ميلٌ) لدى الكثيرين لاعتبار التاريخ حقيقة كاملة وثابتة، وهناك (ميلٌ أقلّ) إلى الشكّ بالتاريخ ومرويّاته. (وهذا التأرجحُ متعلّقٌ بجمهور الرواية التاريخيّة والحكايات المتداولة بين الناس على أنّها جزءٌ من التاريخ، وليس من منظور نقد فلسفة التاريخ)؛ وبين اليقين والشك واحتمالات ما بينهما، تتهيّأُ للرواة مساحات شاسعة للاستفادة منها في صناعة الرواية، كيفما كانت الرواية لجمهور اليقين أو جمهور الشكّ أو من كليهما؛ فإلى أيّ مدى تبدو كتابة الرواية مسألة سهلة ومتاحة للجميع لسهولة الوصول إلى مخازن التاريخ؟ تبدو إجابة الإثبات النظريّ متاحة على هذا التساؤل ويؤيّدها تنامي الإصدارات والروائيين، لكنّ هذا الإثبات بحدّ ذاته يأخذنا إلى النفي، ويدخلنا في جدليّة الوفرة والجودة: حيث إن سهولة كتابة رواية تعني صعوبة كتابة رواية/تمييزها، لأنّ الوفرة تؤدّي إلى التشابه وإلى صعوبة وجود الجودة التمييزيّة ضمن هذا التشابه المكرّر؛ وتحديداً، تكمن علّة الصعوبة في سيولة المعرفة التاريخية، والمقصد: (التاريخ للجميع). عملت الرواية عند غياب شيوع التاريخ والمعرفة على تلطيف المادة التاريخية، والخروج من مأزقها في فقدان القالب البنائي والصياغة الشيقة، والتي امتاز بها الرواة (الحكاواتيّة) والروائيّون في مقابل (برودة) المؤرّخيين، إلى جوار (حالة) تستدعي الالتفات لها، وهي ميل الناس للتفاعل أكثر مع الرواة (كأنّهم يمثّلونهم)، في مقابل نفور أو عدم تفاعل مع المؤرّخين، (كأنّهم يمثّلون السلطة)، ولكنّ، هذين الميل والنفور لا يقابلهما دائماً اليقين والشكّ بمرويات كلا الطرفين. لقد كان من أهداف الرواية إدخال الناس في أحداث التاريخ، بغضّ النظر عن النوايا، بينما لم تعد الرواية بديلاً للوصول للتاريخ، فمخازنه صارت مشرعة للجميع، مما أدّى إلى تجاوز هذه الغاية. وبالتالي، لم تعد إعادة الحكايات التاريخية ومحاكاتها مسألة متميّزة للرواية عن التاريخ، إلا على صعيد اللغة، واللغة على أهميتها، لكنها ليست شرطاً ضروريّاً في الرواية والتاريخ على حدّ سواء، فكأنّما تميّز اللغة إضافة وغيابه ليس علّة. ماذا يمكن للرواية التاريخية أن تقوله الآن؟ كيف نستغلّ التاريخ بين اليقين والشك وتأثيرهما على الواقع، ودون الوقوع في كتابات فلسفة نقد التاريخ، فليس من غاية الرواية التاريخيّة الجديدة أن تكون بديلاً عن التاريخ وليست بديلاً عن النقد؟ كيف نستفيد من التاريخ لمصلحة إنعاش الخيال المأزوم باستهلاك (كُلّ الخيال)؟ وكيف نستفيد منه لنقد الواقع المتاجر بالتاريخ دون محاكاته وبلادة إعادة كتابته؟ شيء من هذا ضمن أسئلة الرواية الجديدة حينما تريد الاستعانة بالتاريخ مع معادلة إمتاع القارئ بإدخاله إلى عالم قد يكون متشابها مع التاريخ، لكنه، ليس هو التاريخ الذي دوَّنه المؤرخون، لطالما أخذت السينما تاريخ المؤرّخين وقدّمتها بصورةٍ لا تقدر الروايات التاريخيّة على منافستها أو تقديم الدهشة والمتعة اللتين توفّرهما الأفلام التاريخيّة، حيث تشوّق الناس للاطلاع على محاكاة عوالم تاريخية، لطالما قرأوا عنها وأحبّوها أو اتخذوا منها موقفا. التاريخ مخزن هائل للرواة، وتبقى جماليّات الرواية في كيفية استغلال المخزن التاريخي، وقوالب وطرق التعاطي معه: (دون اشتراطات محددّة نضعها على كاهل الرواية فنفسد جمالياتها المتنوّعة وحريّة الروائيّين)؛ ثمّ سؤال الدهشة والإمتاع بالدخول إلى مخازن التاريخ بعيون الواقع وخيالاته، وما يمكن لهذا المزيج (التاريخي، الخيالي، الواقعي) أن يقوله، وما يمكن له أن يلقيه من أسئلة الشكّ في التاريخ والواقع، بطريقةٍ، قد تكون مقبولة في الرواية ويتقبّلها الناس، بينما هي نفسها، تلك الأسئلة المهجورة والمغضوب عليها، والتي غالباً ما تؤدّي إلى التصادم في الكتابات الفكريّة ونقد مسلّمات التاريخ.
مشاركة :