وداعاً.. حامل لواء «لغتنا الجميلة»

  • 11/7/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

على صوته الرائق، المنساب كجدول ماء صافي النبع، عاشت ملايين تستمع إليه وتستمتع به. وبأداء شجي النبرة، عميق الإحساس بالحرف واللفظ، ساهم بنصيب وافر في الارتقاء بذائقة الجماهير العربية وتذوقهم لجمال العربية. فكان كالأثري الذي ينبش في تلال ومخلفات التاريخ ليكشف لنا عن مكنونات الأدب العربي وكنوزه، ولينقل الشعر من حفائره، حيث يكسوه غبار الدهور و«باتينا» الزمان إلى متاحفه من البرامج الإذاعية والندوات الثقافية ليبصره المتلقي البسيط من العامة، ويجد فيه الخاصة ضالتهم من الروائع والجماليات. فكان كصائد اللؤلؤ يغوص في أعماق بحر اللغة العربية حيث الدُّر الكامن ليخرج لنا من لآلئه ما يأخذ باللب والخاطر والوجدان. هكذا كان الشاعر والإذاعي والكاتب المصري فاروق شوشة، الذي وافته المنية صباح يوم الجمعة الرابع عشر من أكتوبر عن عمر ناهز 80 عاما، كرّسه لخدمة العربية لغة القرآن العظيم، و بعد حياة أدبية حافلة ألّف خلالها ما يربو عن 20 ديواناً شعرياً وكتاباً في اللغة العربية. ولد فاروق شوشة في قرية الشعراءعام 1936م، إحدى قرى محافظة دمياط التي تطل على البحر المتوسط. وسميت كذلك نسبة إلى شعراء الربابة فيها،الذين كانوا يتغنون بالأبطال الشعبيين والتراث الشعبي المصري. حفظ القرآن في كتّاب القرية وهو صغير، وأتم دراسته الابتدائية والإعدادية والتوجيهية «الثانوية» في دمياط، ليلتحق بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة ضمن أول دفعة تلتحق بالكلية، وليحصل علي الليسانس منها عام 1956م، كما حصل علي دبلوم كلية التربية من جامعة عين شمس عام 1957م.وعمل مدرساً بمدرسة النقراشي الإعدادية النموذجية في عام 1957م، قبل التحاقة بالإذاعة في العام التالي. نهل ثقافته الأولى من خلال قراءاته في مكتبة والده، ففي عام فى عام 1947م اجتاحت الكوليرا مصر ونالت بأذاها الكثيرين ومنهم جده لأمه، وخوفاً عليه من العدوى، لم يسمح له بمغادرة البيت، فمكث فيه، وكانت فرصته ليقرأ كل ماتضمه مكتبة أبيه، فقرأ مجلة «الرواية»، وقرأ فيها الكثير من الإبداعات العالمية المترجمة. كما نهل معارفه الأولية أيضاً من مكتبة البلدية في دمياط، فمن خلالها كانت بداية تعارفه على الشعر العربي وإطلّاعه على أشهر الانتاج الشعري لشعراء هذا التوقيت في مصر، من أمثال:على محمود طه، و إبراهيم ناجي، وعلي الجارم، ومحمود حسن إسماعيل وعلى الكثير من التراث الشعري العربي. في عام 1958م أعلنت الإذاعة المصرية عن مسابقة لتعيين مذيعيين ومقدمي برامج فتقدم إليها، ونجح في اختباراتها ليعمل مذيعًا ومقدمًا للبرامج بها، وتدرج في المناصب الإذاعية حتى وصل إلى منصب رئيس الإذاعة المصرية في عام 1994م واستمر به حتى بلوغه سن التقاعد القانوني عام 1997م. وخلال مسيرته الإعلامية في الإذاعة والتلفزيون المصري، الذي نال عليها شهرة واسعة، وصل صوته إلى الملايين من ناطقي العربية.وكان من أشهر برامجه الأذاعية التي قدمها وكتبها برنامجه «لغتنا الجميلة» الذي بدأه فى بداية شهر سبتمبر عام 1967م. وكان على بساطة اسمه، هو النافذة التي فتحت له باب الشهرة في الحياة الشعرية والثقافية في مصر والعالم العربي، فكان يهلُّ علينا صوته الشجي الرصين كل مساء،ليقول قولته الشهيرة «هنا القاهرة»، يتبعه فاصل موسيقي هادىء، يعقبه صوت الإذاعية الراحلة صفية المهندس لتقول من شعر حافظ إبراهيم عن اللغة العربية التي تنعي حظها «أنا البحر في أحشائه الدُّر كامنٌ... فهل سألوا الغوّاص عن صدفاته» ليأخذنا بعد ذلك في رحلة يومية قصيرة لمنابع التراث العربي الرائق الشائق شعراً ونثراً، عبر عصوره المتعاقبة، فيكشف لنا عن جمال العربية، ويزيل الغبار عن كنوزها وجواهرها، أويسوق لنا نماذج من جمالها في فم المعاصرين من أبنائها.ولقد أضفى صوته وأدائه الإلقائي المميز، على الشعر، جمالا خاصاً جعل العديد من الجماهير تتذوق الشعر وتبصر ما فيه من جمال فكان حافزاً للذوق والتذوق الأدبي. هكذا تربَّت الآلاف وربما الملايين من المتابعين لصوته عبر الإذاعة المصرية قبل أن يروه صورة وصوتاً عبر برنامجه التلفزيوني الأسبوعي الشهير «أمسية ثقافية»، الذي بدأ تقديمه للتلفزيون فى أول شهر يناير عام 1977م. ولقد أفاده العمل الإعلامي كشاعر، وأفاده الشعر في عمله الإعلامي. ورغم انشغالة بعمله الإذاعي ونشاطه الثقافي، كان له تجربة شعرية متميزة،حيث قدّم للقارىء العربي وللمكتبة العربية خمسة عشر ديوانًا شعريًّا. بدأت بديوانه الشعري الأول «إلى مسافرة» الذي صدر عام 1966م لتتوالى بعد ذلك إصداراته من الدواوين الشعرية ومنها: «العيون المحترقة» عام 1972م، و«لؤلؤة في القلب» عام 1973م و«في انتظار مالا يجيء» «1979م»، و«الدائرة المحكمة» عام «1983م»، و«يقول الدم العربي» عام «1988م»، و«سيدة الماء» عام «1994م»، و«وقت لاقتناص الوقت» عام 1996م، و«وجهٌ أبنوسي» عام 2000م، و«الجميلة تنزل إلى النهر» عام «2003م، و«أحبك حتى البكاء» عام «2006م». هذا بخلاف أربع مجموعات شعرية للأطفال هي: «حبيبة والقمر»، و«مَلَك تبدأ خطوتها»، و«الطائر الصغير»، و«الأمير الباسم». يقول فاروق شوشة في قصيدته «الليل»: ألقى النيل عباءته فوق البر الشرقي, ونامْ هذا الشيخ المحنيُّ الظهر احدودب.. ثم تقوّس عبر الأيام العمر امتد وليل القهر اشتد وصاغ الوراقون فنون الكِذبة في إحكامْ! لكن الرحلة ماضية... والدرب سدود والألغام! عبّر شعره عن تجربة خاصة، فكانت قصائده الرومانسية، كما عبر عن شعور عام وحس وطني وقومي، فكانت قصائده الوطنية والقومية.يقول في قصيدة له بعنوان «أنا إليكِ»: سأذكرُ بارقةً من حنين أضاءت بقلبي فراغَ السنين وأذكر موجةَ حبٍ دفين تداعبُ أحلامنَا كلَ حين وتطفو على صفحاتِ العيون سأذكر ماعشتُ...هل تذكرين؟ ويقول عن بغداد في قصيدته «كيف الرقاد»: بغدادُ.. يا بغدادُ كيف الرقادُ ! وأنت الخوفُ والخطرُ وليلُ بغداد ليل ماله قمرُ! ها أنت فى الأسر: جلادٌ ومطرقةٌ تهوي عليكِ وذئبٌ بات ينتظرُ أنتج فاروق شوشة ثلاثة عشر عملاً من الدراسات والمختارات، منها: «لغتنا الجميلة عام 1973م، و«أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي» عام 1973م، و«لغتنا الجميلة ومُشكلات المُعاصَرة» عام 1979م، و«أحلى عشرين قصيدة في الحب الإلهي» عام 1983م، و«العلاج بالشعر» عام 1986م، «ثقافة الأسلاك الشائكة» عام 2000م. و«الشعر أولاً والشعر أخيرًا» عام 2002م، و«الإغراء بالقراءة» عام 2003م، و«جمال العربية» 2003م. وله في التحقيق والتقديم والدراسة أربعة أعمال هي: «معجم أسماء العرب» بالاشتراك عام 1991م، و«سجل أسماء العرب» بالاشتراك عام 1991م، و«ديوان عبد الرحمن شكري» عام 2000م، و«ديوان عبد الحميد الديب» عام 2000م. تُرجمت إلى الإنجليزية أربعة من دواوينه الشعرية، وهي:لغة من دم العاشقين، ووقت لاقتناص الوقت، ووجهٌ أبنوسي، والجميلة تنزل إلى النهر. بالإضافة إلى قصائد عدة ترجمت إلى الفرنسية والإسبانية والروسية والصينية واليابانية. كان يكتب في بابه الشهري بمجلة العربي الكويتية عن «جمال العربية» منذ عام 1991م. في شهر مارس عام 1999م، انتخب رئيساً لاتحاد كتاب مصر وبقي به حتى عام 2000م، وأيضاً انتخب عضوًا في مجمع اللغة العربية، خلفاً للكاتب الصحفي الكبير «مصطفى أمين»، وانتخبت أمينا عاما لمجمع اللغة العربية في عام 2005م. حرص طوال حياته أن يكون بعيداً عن معترك السياسة وشظاياها المهلكة المشوهة، فنأى بنفسه عن الأشواك مكتفياً بانشغاله بالعمل الثقافي، ذلك الذي أورثه حب العامة والخاصة. شارك فاروق شوشة في عدة مهرجانات للشعر عربية ودولية، وكان يعمل أستاذاً للأدب العربى القديم والحديث بالجامعة الأمريكية، وكان يرأس جمعية المؤلفين والملحنين ولجنة النصوص بالإذاعة والتلفزيون المصري، وعضوية لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة،وغنى كلماتي مجموعة من كبار المطربين و المطربات. حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الشعر عام 1986م، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى،وجائزة محمد حسن الفقي (الأديب والشاعر السعودي) عام 1994م، وجائزة الشاعر اليوناني كافافيس عام 1994م، وجائزة مؤسسة يماني عام 1995م، وجائزة الدولة التقديرية عام 1997م، وأخيراً جائزة النيل في فرع الآداب عام 2016م، وهي أعلى وسام يتم منحه للأدباء في مصر، وذلك عام 2016 م. كان يرى أن الجائزة لاتصنع شاعراً بل الجوائز تكريمات لإبداع الشاعر والمبدع، وكان يعتبر الشعر كيمياء اللغة، ويرى أن ازدهار الشعر ووصوله للجماهير لا يكون إلا بالقضاء على الأمية، وتعليم النشء تعليماً لغوياً سليماً، ثم تحويل المتعلمين إلى متذوقين للغة العربية، ثم بالترويج للشعر في المحافل والندوات والأمسيات عند ذلك يزدهر الشعر ويصل إلى الناس ويحقق أهدافه. وكان يرى أيضاً أن شعر العامية هو الوجه الآخر من وجهي العملة الشعرية العربية، وأنه لا ضرر من الإنفتاح على كل ما في العالم، شريطة أن نكون واثقين بأنفسنا وبما عندنا. وبعد رحلة طويلة من العطاء، رحل فاروق شوشة الإنسان، والشاعر، والإعلامي والكاتب، فاللهم اجزه عنا وعمّا قدم لنا من جمال لغة القرآن وكنوزها خيرالجزاء، واللهم ألقه برحمتك حتى تدخله جنتك يا أرحم الراحمين. نعاه الدكتور يوسف القرضاوي، فقال: «رحم الله الشاعر الكبير فاروق شوشة.. حارس الضاد، وحامل لواء العربية، والمدافع عن لغة القرآن.. اللهم أكرم نزله، ووسع مدخله، وأخلفه في عقبه بخير». ونعاه الدكتور محمد الجوادي فقال في كلمات رائعة: «أنعي أستاذا فاضلاً كان معشوق الخاصة والعامة على حد سواء؛ فقد كان بالنسبة لمعظم أهل العلم في أجيالنا العين التي أبصرنا بها روائع تراثنا وجمالياته؛ ومكنونات لغتنا وجواهرها؛ وكان بالنسبة للجماهير العريضة الصوت الذي ارتقى بنطقهم وفهمهم وجرسهم ونبرهم لنصوص الشعراء والأدباء. أنعي فيه الذاكرة الحية التي لم تتباه بما حفظت، وأنعي الذائقة الراقية التي لم تدل بما استطابت. أنعي فيه الحب حين كان يسير على قدمين، والود حين كان يظهر في العينين. أنعي فيه العلم حين كان يوظف القلم الشريف ليبطن كل صياغة، ويظهر كل مخبوء، ويجلي كل مغمور، ويزكي كل مستحق؛ ويشجع كل واعد؛ ويخلد كل رائد. أنعي فيه الانسان الشريف، واللفظ العفيف، والظل الخفيف، والإحساس الرهيف، والمأخذ اللطيف أنعي فيه اللمحات الشائقة، واللفتات الرائقة؛ والملكات الفائقة؛ والأسانيد الواثقة؛ والأحكام الصادقة أنعي فيه الوفاء في تألقه؛ والصفاء في تأنقه، والعطاء في تدفقه، والولاء في تعلقه. رحم الله الشاعر الكبير فاروق شوشة وأسكنه فسيح جناته. - د. محمد أبو الفتوح غنيم

مشاركة :