لم يكن خبر وفاة الكاتب الزميل فاضل الزباد - رحمه الله - بالأمر السهل بالنسبة لي، بقدر ما كان صدمة لم أفق منها إلى الآن. تلك الصدمة التي تركت انطباعا مؤلما في نفسي، إلى الدرجة التي جعلتني أعجز تماما عن تناول خبر وفاته، ولو حتى من قبيل مواساة النفس بالكتابة والرثاء. وكنت أعرف بأنباء مرض الزباد، ومعاناته مع آلامه التي سيطرت على كامل جسده، ورغم ذلك لم تتوقف مقالاته الأسبوعية، ولم تتوقف مشاعره النبيلة تجاه أصدقاء التواصل الاجتماعي، ولم يتوقف قلبه من النبض بمشاعر الحب والسلام، ولم يتوقف ذهنه من التفكير في أحوال الحياة، والسعي إلى تأصيل مبادئ إنسانية شفيفة، يراها قادرة على أن تغير ما في الأنفس من كراهية وحقد وظلام. ولكنني لم أكن أعرف أن ابنه الكاتب خالد الزباد سيرسل لي رسالة مباغتة عبر «الواتسب» يخبرني فيها بوفاة أبيه، هذه الرسالة التي غيرت نظرتي للحياة إلى درجة لافتة للنظر، وجعلتني أستعرض في شريط مفعم بالخصوصية، كل الأحباب الذين رحلوا، وكانت أمزجتهم تميل كل الميل إلى الطيبة والسلام... وكانت مشاعرهم تتلو في كل همسة وكلمة ونبضة قلب وخطوة... ما يحتويه الزمن من عقود مصالحة مع النفس والحياة معا، تذكرت أولئك الذين رحلوا وكانت أحلامهم طازجة ندية، تكبر كلما كبرت أوقاتهم، ولا تصغر على الإطلاق، في ظل المعاناة والألم. الزباد الذي كان شفيفا في أخلاقه، وشفيفا في كتاباته، وشفيفا في تعامله مع الجميع... رحل من دون أن يعلمني بأن زاويته «فكرة كلام»، ستتوقف من بعده، لم يعلمني أنه ترك حياة الدنيا، لينتقل إلى حياة أخرى، أرى فيها نورا وبهجة وسلاما. رحل الزباد ولم يخبرني بأن أنفاسه ستنتقل من عالم فانٍ مؤلم ملبد بالأحقاد والكراهية، والنفاق، إلى عالم يبدو في مظهره الصمت، إلا أنه عالم للراحة والبقاء الأبدي. فليس كل ما تحسه يمكن أن تفلح الكلمات في وصفه، وليس كل ما تفتقده- شكلا- تستطيع أن تتجاهل مضامينه وحيويته ومظاهره التي تبدو جلية في تصرفاتك ومشاعرك، والزباد من أولئك المبدعين، الذين أخذتهم الحياة في مسارها الإنساني السليم، فكان أبا أحسن تربية أبنائه تربية صالحة، ومبدعا كرس وقته لخدمة الحياة الأدبية بكتابات متوهجة بالسلام، ومقتربة كثيرة الاقتراب من روح الحياة، وملامسة مباشرة كل النواحي المتعلقة بالإنسان. رحل الزباد... ولم تكن قدرتي متوفرة في أن أتناوله بالرثاء، وكنت أتمنى أن يتحمل أحد الأصدقاء عبء الكتابة عنه، ليس تقليلا من قيمته، ولكن بسبب عجز قلمي، وقلة حيلته، في اختيار الكلمات الجديرة بهذا الإنسان المخلص، فتركت نفسي كي تهدأ برهة، لأقول ولو اليسير مما أريد أن أقوله، في الزباد- رحمه الله- وأحاول قدر المستطاع أن أؤكد أن الحياة لا تزال بخير طالما أنها مستمرة في احتواء من هم في شكل وصورة الزباد، نعم الحياة بخير لأنها تضم على متنها الزباد صاحب القلب الكبير والنفس الأبية، والطيبة التي تصل إلى حالة من الرضا والتسامح حتى مع المسيئين. وكنت أتمنى أن يكتب عن الزباد نفر من الأصدقاء، إلا أن أحدا لم يتململ من جلسته ليمسك القلم ويكتب أن الحياة مر فيها رجل من المبدعين الصالحين، وأن الإبداع انتهجه مبدع لم يكن في حساباته إلا أن يكون راضيا لمشاعره وضميره ونفسه وقلبه. ولكني كنت أقول: هكذا هم الطيبون لا حساب لهم مع الواقع، الذي لا يتعامل مع الشفافية والجمال الروحي بقدر تعامله مع الزيف والبريق الذي يخدع النفس، والشهرة المبتورة الأصل، إنه لا يقيم وزنا لمن هم في مصاف المبدعين الذين استمرأتهم الرؤى المخلصة والحقيقة الواضحة. وليس لنا في هذا الموقف إلا أن نقول: رحمك الله يا مبدعنا الشيّق الجميل فاضل الزباد... لن ننساك، ولن ننسى-ما حيينا- أنك مررت من هنا من هذه الحياة، فتركت عبق إبداعك، وتركت لنا صورا تتلاحق في أذهاننا عن إنسان أحبته الإنسانية فأعطته بلا حدود، وأحبه الإبداع فكان لينا مطيعا له، ولكنه- في المقابل- لم يسعَ إلى الشهرة ولم يكرس نفسه للنفاق، فجلس بعيدا عن مجالس المنافقين وهذا- في يقيني- هو المكسب الحقيقي، الذي لا مكسب أعلى منه. فكن أيها الزميل في راحتك الأبدية منسجما مع ما تركته من إرث إنساني لن يتوقف فعله أبدا، ولن يتوقف سيره على أرضنا التي نحيا عليها.
مشاركة :