شهد جناح مؤسسة محمد بن راشد الثقافية في معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الـ 35 توقيع النسخ الأولى من "موسوعة السرد العربي" للناقد العراقي د. عبدالله إبراهيم، والتي أصدرتها المؤسسة أخيرا في حوالي 4000 صفحة وفي 9 مجلدات كبيرة، ودرست ظاهرة السرد في الأدب العربي منذ العصر الجاهلي إلى وقتنا الحالي، فقدمت تحليلا مفصلا لكل الظواهر السردية الكبرى، ووقفت على الأنواع السردية الأساسية كالمقامات، والحكايات الخرافية، والسير الشعبية، وأدب الرحلة، والرواية الحديثة. وجاء توزيع الموسوعة منسجما على الرغم من ضخامة العمل، فتناولت الأربعة أجزاء الأولى السرد القديم، والأربعة أجزاء التالية السرد الحديث، وجزء خاص بالفهارس الشاملة. الجزء الأول تطرق لجملة الأسس النظرية التي سيتم العمل عليها في الموسوعة لدراسة السرد العربي ثم السياقات الثقافية الحاضنة، أما النظرية فلأنها تحدد طبيعة الرؤية النقدية في معالجة الظاهرة الأدبية خلال تاريخها الطويل الذي زاد على 1500 عام، أما الثقافية فلأنها تمثل السياق الذي احتضن هذه الظاهرة وشارك في صوغها، فتلازم الأسس النظرية والسياقات الثقافية هو القاعدة التي نهضت عليها الموسوعة بكاملها وفي ضوء ذلك خصص الجزء الأول منها للوقوف على الأسس والسياقات. ويشير د. عبدالله إبراهيم إلى أنه حيثما تردد مصطلح السردية العربية في الموسوعة فلا يحيل إلى مقصد عرقي بل القصد منه الاشارة إلى المرويات السردية القديمة والنصوص السردية الحديثة التي كتبت باللغة العربية، وكان التفكير والتعبير فيها يترتب بتوجيه من الخصائص الأسلوبية لتلك اللغة في بلاد كثيرة استوطنتها أعراق متعددة وهو الأمر الذي جعل مظاهر التعبير فيها تخضع لخصائص اللغة العربية وسماتها. ويقدّم الجزء الثاني وصفًا للظروف الثقافيّة التي احتضنت نشأة الأنواع السرديّة في الأدب العربيّ القديم، وهي: الخرافة، والسيرة، والمقامة، ويعرض تحليلًا موسّعًا لبناء كلّ نوع. وقد استأثرت بالاهتمام العلاقة بين الراوي والمَرويّ، أي بين المُرسل والمادّة السرديّة، وهي علاقة اقترضت سماتِها من الموجّهات الخارجيّة للسرد العربيّ، وفي مقدمتها الموجّهات الشفويّة والدينيّة التي فصلتْ بين الراوي والمَرويّ، فطبعت السرد القديم بطابع الإرسال والتلقّي. ونتج عن ذلك ضعف في العلاقة بين الراوي وما يَروي، فلقد تكفّل الراوي بأداء مهمّة أخباريّة، وليس له أن يبتكر وإلا اتُّهم بالابتداع الذي لا ينهض على أصل. وانتظمت المرويّات السرديّة القديمة في نسقيّن هما: نسق التتابع، ونسق التداخل، ويعود ذلك إلى طبيعة الخواصّ السرديّة للنوع من جهة، وإلى علاقة الراوي ببناء الأحداث من جهة أخرى؛ فالمادة المرويّة لا ترتبط بالراوي إلا على سبيل الإرسال، ولا ترتبط بالمَرويّ له إلا على سبيل التلقّي. أدب الارتحال كان محور الجزء الثالث من الموسوعة، هذا الأدب الذي احتلّ ـ وفقا للموسوعة ـ موقعًا أساسيًّا في السرد العربي، واقترن بـ "مغامرة" خاضها الرحّالة في عوالم مختلفة عن عوالمهم، فخلّف ذلك سردًا ثقافيًّا عُني بوصف تجارب التطواف مشتبكةً مع أحوال تلك العوالم، وقد نزع التمثيل السرديّ إلى التقريرية؛ فلم تعد اللغة وسيلة إيحاء، بل أداة بحث في القضايا الدينية، والتاريخية، والاجتماعية؛ فتجربة الارتحال تورث الشغف، والإثارة، والفضول، لأنها تشبع نزوعًا راسخًا، هو الأكثر شيوعًا عند بني البشر، تمثّله الرغبة في معرفة الأحداث الطريفة، ثم متعة التوغّل في عوالم مجهولة، والسير في هدي الاحتمالات، وخوض مغامرة من دون اكتراث بالعواقب. وبعد أن يتحقّق ميثاق السرد - ومضمونه الاكتشاف والدهشة - تعود الشخصية إلى عالمها الأول، مؤْثرة الاستقرار، فتشرع في رواية ما وقع لها، وما شاهدت من أحوال الأمم الأخرى، ثم تستخلص القيم الاعتبارية للتجارب التي تعرّفتها، وتجري غزارة السرد تعديلاً على مغامرتها، فتُعيّن مسارها منذ البداية إلى النهاية، وتُفصِح عن مضمون التأكيدات، والتأويلات، حول العالم الذي طافت في أرجائه. وطمح الجزء الرابع إلى إعادة بناء السياق الثقافيّ لنشأة السرديّة العربيّة الحديثة، حيث يرسم التفاعلات الأدبيّة والاجتماعية في القرن التاسع عشر التي شهدت جملة من التغيّرات المتداخلة، من بينها الحراك الثقافي المحتدم، وتحلّل الأبنية التقليديّة، وبداية تشكّل أنواع جديدة، ولا يرغب البحثُ في الارتهان للفرضيّات الشائعة حول نشأة السرد العربي الحديث، إذْ لا يقع التحرّر من هيمنة الخطاب الاستعماريّ الذي أرسى دعائم تلك التصوّرات من دون نقد ركائزه، فقد انبثق ذلك السرد من خضمّ التفاعل بين المرجعيّات والنصوص والأنواع الأدبيّة، فهو الثمرة التي انتهت إليها حركة التمازج بين الرصيد السرديّ التقليدي، والمؤثّرات الثقافيّة الجديدة، والحراك الذي عصف بالأنواع السردية القديمة، وفي مقدمة ذلك: ضعف الحدود الفاصلة بين الأجناس والأنواع، وغياب الهُويّات النصيّة الثابتة، وتفكّك الأنظمة السرديّة الموروثة، ثم انحسار القيم الثقافيّة الداعمة للأدب القديم، فكلّ ذلك نزع الشرعيّة عن السرد القديم، وفتح الأفق أمام السرد الحديث. واحتفى الجزء الخامس بالرواية احتفاءً كبيرًا إلى درجة يصحّ القول فيها إنّ عصرنا هو عصر الرواية؛ ويعود ذلك إلى قدرتها الفائقة على تمثيل المرجعيّات الثقافيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة، وهو أمر فاق قدرة الأنواع الأدبيّة الأخرى التي انحسر دورها، وكفّت عن الإسهام في تمثيل التصوّرات الكبرى عن الذات والآخر. وخاضت الرواية العربيّة تجربة الرهانات الكبرى في تمثيل أحوال المجتمع بتوسّع فاق ما قدّمته الأنواع الأدبية الأخرى من تمثيل. على أنّ استقرار هذا النوع في الأدب العربي الحديث ينبغي ألاّ يمحو الصعاب التي واجهته، فلم تنتزع الرواية العربية شرعيّتها الثقافيّة إلاّ بعد أن ترسّخت المعالم الأساسيّة للحداثة، ومنها مؤسّسة الدولة، والحقوق المدنيّة، والهُويّات الفرديّة، وحيثما كانت تلك المعالم هشّة قوبلت الرواية بصدود عامّ. وعلى أيّة حال، فقد اجتازت الرواية تخوم الشكّ في قيمتها الأدبيّة، وتخطّت النظرة الدونيّة إليها، وصارت نوعًا جديرًا بالتقدير باعتبارها لبّ الأدب السرديّ في العصر الحديث. ويمكن إدراج السرود النسوية ـ وفقا للدكتور عبدالله إبراهيم ـ وهي موضوع هذا الجزء السادس من الموسوعة، في سياق نصوص المتعة، وهي النصوص التي تزعزع معتقدات المتلقّي، فتخلّف لديه إحساسًا بأنه يقرأ نصوصًا لا تنسجم مع ما عهده من تخيّلات عن العالم الذي يعيش فيه، وبكلّ ذلك تستبدل رغبة في حريات فرديّة مغايرة للحريات الجماعية المبهمة، وإلى ذلك تقوم بتمثيل تجارب نسويّة لا تعرف الولاء، وفيها من الخروج على الأعراف أكثر ما فيها من الامتثال لها، فتتحرّك في مناطق شبه محرّمة، وتُحدث قَلقًا في الانسجام المجتمعي. وينبغي التفريق بين كتابة النساء، والكتابة النسويّة، فالأولى تتمّ بمنأى عن فرضيّة الرؤية الأنثويّة للعالم إلاّ بما يتسرّب منها دون قصد، أمّا الثانية فتتقصّد التعبير عن حال المرأة، استنادًا إلى تلك الرؤية في معاينتها للذات وللعالم، ثمّ نقد الثقافة الأبويّة السائدة، وأخيرًا اعتبار جسد المرأة مكوّنًا جوهريًّا في الكتابة، فيترتّب كل ذلك في إطار الفكر النسويّ، ويستفيد من فرضيّاته، وتصوّراته، ومقولاته، ويسعى إلى بلورة مفاهيم أنثويّة من خلال السرد، وتفكيك النظام الأبويّ بفضح عجزه عن الوفاء بشروط الحياة. وفي الجزء السابع يحلل د. عبدالله إبراهيم اقتران أدب الاعتراف بالهُويّة سواء أكانت هُويّة فرديّة أم جماعيّة، ويرى أنه لا يمكن انتزاع الكاتب من الحاضنة الاجتماعيّة التي يشتبك معها؛ ذلك أنّ أدبه يقوم بمهمّة تمثيلها، فلا يطرح موضوع الهُويّة في السرد، والاعتراف بها، إلاّ على خلفيّة مركّبة من الأسئلة الشخصيّة والجماعيّة؛ فالكاتب منبثق من سياق ثقافيّ، وتجد الإشكاليّات المثارة كافّة في مجتمعه درجة من الحضور في مدوّنته السرديّة. لكنّ أدب الاعتراف محطّ شبهة، وموضوع ارتياب؛ لأنّ الجمهور لم يتمرّس بقبول الحقائق السرديّة، فيرى في جرأة الكاتب على كشف المستور سلوكًا غير مقبول، فالاعتراف محاط بكثير من ضروب الحذر في مجتمعات تتوهّم أنّها بلا أخطاء، وتتحاشى ذكر عيوبها، وتتخيّل أنّها تطهّرت من الآثام التي واظبت على اقترافها مجتمعات أخرى، فتدفع المخاوف كثيرًا من الكتّاب إلى اختلاق تواريخ استرضائيّة لمجتمعاتهم، وابتكار صور نقيّة لذواتهم، متجنّبين كشف المناطق السرّيّة في تجاربهم، وإظهار المسكوت عنه في مجتمعاتهم، يريدون بذلك الحفاظ على الصور الشفّافة لهم ولمجتمعاتهم. وبين د. عبدالله إبراهيم في الجزء الثامن والأخير باعتبار أن الجزء التاسع عبارة عن فهارس أن الوقتُ الذي ينبغي أن يحلّ فيه مصطلح "التخيّل التاريخيّ" محلّ مصطلح "الرواية التاريخيّة" قد أزف، وقال "هذا الإحلال سيدفع بالكتابة السرديّة التاريخيّة إلى تخطّي مشكلة الأنواع الأدبيّة، وحدودها، ووظائفها، ويفكّك ثنائيّة الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هُويّة سرديّة جديدة، لا ترهن نفسها لأيّ منهما، وسوف يحدّ من التنقيب في مقدار خضوع التخيّلات السرديّة لمبدأ مطابقة المرجعيّات التاريخيّة؛ فينفتح على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ، إنّما تبحث في طيّاتها عن العِبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التماثلات الرمزيّة فيما بينها. ويصحّ القول بأنّ "التخيّل التاريخيّ" هو المادّة التاريخيّة المتشكّلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقيّة وأصبحت تؤدّي وظيفة جماليّة؛ فالتخيّل التاريخيّ لا يحيل إلى حقائق الماضي، ولا يروّج لها، بل يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه، ومؤوّلة لها، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المُعزّز بالخيال الذاتي، والتاريخ المُدعّم بالوقائع الموضوعية، لكنّه تركيب ثالث مختلف عنهما". محمد الحمامصي
مشاركة :