محمد حماد اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني (النبي صلى الله عليه وسلم) يقول عز وجل : وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أو أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (الزمر الآية 38)، قال ابن عباس رضي الله عنهما : حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد عليه الصلاة والسلام حين قال له الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فتوكلوا على الله فكان حسبهم. وقبل أن نخوض في الحديث عن التوكل نقول مباشرة: إن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل إن التوكل على الحقيقة هو أخذ بكل الأسباب ثم ترك الأمر لرب الأسباب ومسببها، والأخذ بالأسباب من صدق التوكل، وصحة الدين، وسلامة المعتقد، وقوة اليقين، لكن البلاء كل البلاء، والشر كل الشر، في الاعتماد على الأسباب وحدها، ونسيان المسبب وهو الله سبحانه، الاعتماد على الأسباب وحدها خلل في الدين، وترك الأخذ بالأسباب خلل في العقل، وعدم السعي ليس من التوكل في شيء، وإنما هو اتكال أو تواكل حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى الجملة فإن عدم الأخذ بالأسباب قدح في التشريع، والاعتقاد في الأسباب قدح في التوحيد، وقد فسر العلماء التوكل فقالوا: ليكن عملك هنا ونظرك في السماء، وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إن رجلاً قال: يا رسول الله أأعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ (يقصد ناقته) قال: اعقلها وتوكل. إمام المتوكلين وإمام المتوكلين صلى الله عليه وسلم مع عظيم توكله، وصدق يقينه بالله تعالى، كان يأخذ بالأسباب، ولا يعتمد عليها وحدها، بل يعتمد على الله الواحد الأحد، فقد كان يُعِدّ لكل شيء عدته، ويهيئ له أسبابه، ثم يرفع يديه إلى السماء: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم، وسيرته صلى الله عليه وسلم هي مسيرة التوكل على الله، ملأى بأعظم صور التوكل، وعظيم اليقين بالله تعالى، خرج مهاجراً وليس معه إلّا الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه، رجلان لا يملكان غير راحلتيهما والتوكل على الله وخلفهما الطلب من كل جانب، وقد جدّ المشركون وراءهما ورصدوا الجوائز لمن يرشدهم إليهما، فدخلا الغار مختبئين وحام المشركون حول باب الغار، وسمع الرسول وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهما فأخذ الروع أبا بكر وخشي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمس بأذى فهمس يحدث النبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فتكلم صلى الله عليه وسلم بلغة المتوكل على ربه، المعتمد على مولاه: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا. مفتاح كل خير والتوكل عبادة من أفضل العبادات، وخلق عظيم من أخلاق الموحدين، وهو من أعلى مقامات اليقين، وهو مفتاح كل خير، وهو من أبرز سمات المؤمنين الصادقين لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال الآية 2)، وهو صفة من صفات الإيمان، قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (آل عمران الآية 173). ومن فضل التوكل في القرآن أن الله أمر رسوله بالتوكل في تسع آيات فقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (النساء الآية 81)، وقرن سبحانه وتعالى بين العبادة والتوكل فقال عز من قائل: وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (هود الآية 123)، وحث ربنا على العزم والتوكل معا فقال: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران الآية 159)، وأبلغ أن ما عند الله خير وأبقى للمؤمنين الذين على ربهم يتوكلون: وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الشورى الآية 63 ). وقرن الله تعالى التوكل بالربوبية والألوهية معاً ومن ذلك قول الحق: قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (الرعد الآية 30 )، وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (المزمل الآية 9)، وقوله: وعلى اللهِ فليتوكلِ المُؤمنُون (آل عمران الآية 221). عبادة عظيمة والتوكل على الله عبادة عظيمة لا يجوز صرفها لغير الله الواحد القهار، فالمؤمن الصادق الموقن يتوكل على الله وحده في كل ما يأتي ويذر، فيتوكل عليه سبحانه في طلب الرزق والنصرة، وفي طلب الشفاء والعافية، وفي دفع السوء والضر، لأنه لا رازق إلاّ الله، ولا ناصر إلاّ هو سبحانه وتعالى، ولا معطي ولا مانع سوى الله، ولا ضار ولا نافع غيره جل وعلا، الخالق المتصرف المدبر مالك الملك، وقد أمرنا رب العالمين بإخلاص التوكل عليه سبحانه: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (النساء الآية 81)، وسبحانه حين يأمرنا بالتوكل عليه عز وجل يعطينا السبب المقنع لكل ذي قلب فيقول: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ (الفرقان الآية 58) فالذين يكلون أمرهم لغيره إنما يكلونه إلى أموات، لا يقدرون على شيء، ولذلك جعل التوكل شرطاً لصحة الإيمان فقال سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (المائدة الآية 23). وفي البخاري في باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه بشرى للمتوكلين من أمة النبي صلى الله عليه وسلم.. بشرى يتمناها كل مؤمن عابد قانت آناء الليل وأطراف النهار، أن يدخل المتوكلون على الله الجنة بغير حساب، وفي الصحيحين عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عُرِضَتْ علي الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ، وَلَكِن انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ. ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإسلام وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هُم الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، ولا يكتوون، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون. نصف الدين التوكل على الله نصف الدين، والإنابة نصفه الثاني، والدين استعانة وعبادة إياك نعبد وإياك نستعين، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الأدعية التي فيها توكل على الله، فقد روى مسلم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وروى النسائي في سننه عن محمد بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعاً يقول إذا ركع: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ولحمي ودمي ومخي وعصبي لله رب العالمين، وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا خرج الرجل من باب بيته (أو من باب داره) كان معه ملكان موكلان به فإذا قال: بسم الله، قالا: هديت، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالا: وقيت، وإذا قال: توكلت على الله، قالا: كفيت، قال: فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هدي وكفي ووقي؟ وصدق القائل: إن التوكل على الله جماع الإيمان.
مشاركة :