كلما رأيت أولئك الذين يمشون وراء شعار ثورة الفقراء أو كما يسمونها (ثورة الغلابة)، تذكرتُ تلك المشاهد التي لن يمحوها طول الأمد؛ فقد فقدنا الأحبة بحثاً عن الكرامة لا بحثاً عن البطون الجائعة، في حربٍ طال أمدها بين العسكر وأهل مصر ممن اختاروا طريق الديمقراطية ليحصلوا على حقوقهم المنهوبة منذ قرون. قديماً، كان النظام العسكري يفعل لعبة قذرة مع ذلك الشعب الجائع، في مسجد الشيخ كشك عليه رحمة الله؛ عندما كان الناس يستمعون لخطبته فيخرجون في مظاهرة فيقابلهم النظام بسيارات البيض بالسعر المخفّض، فيترك أصحاب البطون المسيرة بحثاً عن صندوق من البيض! وبعد الشراء، يخشى كل واحد على بيضه وتتبقى في المسيرة مجموعة قليلة ممن خرجوا بعقيدة صادقة، فتتلقفهم قوات الأمن اعتقالاً وتشريداً وتعذيباً، ويعود بالبيض من خاف عليه! وها هم الآن يدعون للثورة للبطون، والبطون إن وجدت طعاماً فقد وجدت بغيتها، حدثوني بالله عليكم: متى شبع هؤلاء وامتلأت بطونهم؟! ألم يكن الإخوان يرسلون إليكم بما تحتاجه تلك البطون دون ثورة لطلبه ثم قابلتم ذلك بالسيئ ولم تحفظوا ما فعله هؤلاء القابعون في غياهب الزنازين؟! جريمتهم الوحيدة أنهم يريدون تحريركم من عبودية البطون إلى نعمة الحرية التي لم تتذوقوها! شاهدتُ مقطع الفيديو لتلك السيدة التي كانت تجادل الدكتور باسم عودة، يومَ أن كان وزيراً للتموين، في ارتفاع أسعار السلع الغذائية وترفع صوتها، وقارنتُ تلك الأسعار بما نحن عليه اليوم فتذكرت قوله تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾. [سورة النحل: 112] إن ما أقصده من مقالي هذا، ليس بالتحبيط والتثبيط لمن يريدون الخروج من أجل الطعام، لكن الطعام الذي يأتي بذلٍّ فلا حاجة له، وقديماً قال عنترة العبسي: لا تَسْقِني ماءَ الحياة بذَلَّةٍ ** بَلْ فَاسْقِني بالعزِّ كأسَ العَلْقَمِ ماءُ الحيـــــــــــــاة بذَلَّةٍ كجهـــــــــــنم ** وجهنمُ بالعزِّ أطيــــــبُ منزل فهذا هو درب الأحرار منذ الأزل لا يرضون الدنية في طلب الحقوق، ولهذا فإن تلك الكلمات التي أكتبها، ما هي إلا نذير وتذكير لكل من غضب لأجل لقمة العيش، فأقول لو أن الطعام قد تم توفيره لك على أن تخرس صوتك وتلزم بيتك وسيصلك الطعام عندما تريده، انظر لتلك الحالة وفرّق بينها وبين البهائم التي نربيها والحيوانات التي نطعمها دون أن تبحث عن طعام بنفسها، ما الفرق بيننا وبينهم إذاً؟ الحقيقة، انه لا فرق، ولو كنت تعتقد غير ذلك فأولى لك ألا تخرج في هذا اليوم! إن الجوع وقلة الطعام لن يكونا سبباً في تأخر النصر أو هزيمة الشعب، إنما الهزيمة الحقيقية أن يخرج الناس بلا عقيدة صادقة تبحث عن شيء ثمين كالحرية والعدالة والمساواة وغيرها من القيم التي أعطاها الله للإنسان طبيعةً فيه. قديماً حدث مع النبي ما يحدث، وهي سُنة الظالمين منذ الأزل يعتقدون أن الجوع يردّ الناس عن عقيدتهم. ولننظر لأكثر من موقف في بدايات هذه الدعوة، هذا بلال -رضي الله عنه- يُعذّب في رمضاء مكة ويُمنع عنه الماء والطعام بغية الرجوع عن عقيدته، فيضرب أروع الأمثلة في الصبر ولا يتزعزع لحظة عن هذه العقيدة. وهذا رسول الله ومن معه من أهله ومن المؤمنين، يحاصرونهم في شِعب أبي طالب، في حصار اجتماعي وسياسي واقتصادي، ومع ذلك يبقى الحصار قرابة أعوام ثلاثة ولم يردَّهم الحصار عن تلك العقيدة الراسخة في قلوبهم وليست على ألسنتهم، ثم يخرجون في عزة من هذا الحصار وقد أكلوا فيه ورق الشجر ولم يبق شيء إلا أكلوه، ومع ذلك بقيت العقيدة هي الأقوى من ألم البطون. لأن تجوع بطوننا لله سنوات خيرٌ من أن نقبل بذلٍّ من هذه الفئة الظالمة التي قتلت ونهبت وأذلّت بسبب بحثهم عن مكاسبهم الشخصية دون البحث عن حاجة هذا الوطن من الحرية؛ لينعم بها بعد سنوات الذل من العسكر. لم تنقضِ معاناة الصحابة بعد الخروج من الحصار؛ بل امتدت بعد ذلك حتى الخندق، فيمر النبي ليرى أصحابه وقد ربطوا الحجارة على بطونهم من الجوع، فيكشف عن بطنه وقد ربط عليه حجرين من شدة الجوع، ومع ذلك فلم يثوروا ولم يتعجّلوا النصر والخلاص من هذا الوضع؛ لعلمهم أن العقيدة والدين هما الأصل، فمتى شبعت الأرواح من الطاعات لم يحسّ الجسم بألم الجوع، ولكن إذا شبعت البطون نامت عن طاعة الله. اخرجوا وثوروا لدينكم الذي تُنتهك حرمته ولأعراض بناتكم التي هُتكت ولأوطانكم التي سلب العسكر خيراتها، ثوروا لتلك الدماء التي سالت من بداية هذا الانقلاب الدموي الذي يقتل كل من يعارضه. يقتل من أبناء الشعب كل من يرى الحرية وراء سقوط الانقلاب الذي لم نرَ من ورائه إلا الذل والعار من العرب والعجم؛ بداية من حادثة الدهس بالكويت، إلى تعرية الرجل من كويتي وتهديده بالتبول عليه، إلى ذلك الشاب في الأردن، إلى السعودي الذي ضرب المصري... إلى غير ذلك من الحوادث التي تبين المكانة الحقيقية لمصر عند شقيقاتها من الدول، نهاية بموقف وزير الخارجية الخائن الذي يبكي في جنازة بيريز. ثوروا من أجل الحرية وسيأتيكم الخير من كل مكان؛ "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض". الثورة ما زالت مستمرة من القديم وقد هدأت للبناء ثم هدم العسكر ما بنيناه، ولا بد من العودة للمسار الصحيح، فالشعب هو سيد القرار، كقول الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة ** فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ** ولا بد للقيد أن ينكسر
مشاركة :