القاهرة: محمد المالحي يعتبر شارع النبي دانيال، نسبة للعارف بالله محمد بن دانيال الموصلي، أحد أقدم وأشهر شوارع مدينة الإسكندرية الساحلية بمصر، أو شارع الكتب كما يطلق عليه أحياناً أخرى، درب المثقفين والباحثين عن الثقافة والمعرفة، منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى الآن، حيث تفوح بين جنبات وحوانيت باعة الكتب القديمة، رائحة الكتب المختلطة بحبر وأقلام المبدعين، وذكريات الأجانب الذين عاشوا في المدينة الساحلية سنوات طويلة، وكان لهم فضل إنشاء وتدشين الشارع الذي يحمل نسمات التاريخ. يقع شارع الكتب بوسط المدينة، ويشق ميدان محطة مصر محطة القطار الرئيسية إلى ميدان محطة الرمل، ويمثل لمثقفي المدينة ومبدعيها أحد أهم وأشهر المحطات الثقافية، وبمثابة سور أزبكية سكندري بسبب وجود باعة الكتب القديمة والمستعملة به، الذين يصطفون على جانبي الشارع، يبيعون كافة أنواع المجلدات العلمية والكتب الثقافية والمجلات العربية والأجنبية، في مختلف الثقافات والاتجاهات، إضافة لمجلات رسوم الأطفال أيضاً، لذلك بات من المعتاد، مشاهدة سائح أجنبي يبحث بين أكوام الكتب عن كتاب أو مجلد معين، وتجد البائع يجاذبه أطراف الحديث بلغته بطلاقة. العم حسين محمد حسين، الرجل الثمانيني- مواليد 1936- بجسده النحيل ونظارته الطبية السميكة، والابتسامة التي لا تفارق وجهه البشوش دائماً، بات هو الآخر معلماً أساسياً من معالم الشارع الشهير، وصديقاً لأغلبية مثقفي المدينة ومشاهيرها، باعتباره شيخ البائعين بالشارع الشهير، وأقدمهم على الإطلاق، وأول من اتخذ من الشارع مكاناً لعرض بضاعته من الكتب القديمة منذ عام 1951 مع والده وقتها، وكان عمره لا يتجاوز الخامسة عشرة من العمر. وبحسب العم حسين فإن اليونانيين والإيطاليين، الذين كانوا يقيمون بالمدينة، ونزحوا منها بدايات ستينات القرن الماضي، هم أول من دشنوا تجارة وبيع الكتب القديمة والمستعملة، وكان لهم فضل إنشاء الشارع بشكله الحالي، وكانوا أشهر باعته، بحسب ذكريات والده، الذي كان بائعاً للكتب بالشارع منذ عام 1930 ومنهم تعلم الباعة المصريون، خبايا وأسرار مهنة بيع الكتب القديمة والمستعملة. أحب العم حسين مهنته لدرجة العشق، فهو يرى أن مهنة باعة الكتب من أعظم المهن؛ لأن الأمم تزدهر بالعلم والثقافة والعمل، وأن الكتاب خير صديق ومعلم، ويدين بالفضل لمهنته، في تعلمه القراءة والكتابة، من خلال فصول محو الأمية المجانية التي أنشأها رئيس وزراء مصر الأسبق مصطفى النحاس باشا، قبل ثورة يوليو/تموز 1952 والتحق بها، بجانب عمله مع والده، وساعده عمله ببيع الكتب القديمة، على إجادة القراءة والكتابة، بل واللغتين الإنجليزية والفرنسية، بسبب وجود العديد من أبناء الجاليات الأجنبية بالمدينة الساحلية، حتى حقبة منتصف ستينات القرن الماضي، كانوا يحرصون على المرور عليه يومياً لاقتناء الكتب والروايات الأجنبية. ويرى أنه وغيره من بائعي الكتب بالشارع- نحو 100 بائع- يقومون بحفظ التراث من الكتب والمجلات النادرة والقديمة، بدلاً من بيعها لشركات الورق التي تقوم بإعادة عجنه وتصنيعه مرة أخرى، خاصة الطبعات القديمة والنادرة من بعض الكتب، التي أغلقت دور النشر التي أصدرت طبعاتها الأولى، إضافة لأن أسعار الكتب القديمة أقل كثيراً في سعرها من الطبعات الجديدة لها، رغم أن أغلبية الطبعات القديمة للكتب، كانت من نوعية فاخرة من الورق، وأنيقة في طباعتها عن الكتب الحديثة، التي بات إخراجها ونوعية الورق المستخدم في طباعتها يخلو من الأناقة وجمال التصميم- حسب تعبيره. خلاف الكتب الثقافية تصطف مئات المراجع العلمية والمجلدات، التي يحرص العم حسين على ترتيبها بعناية فائقة، بقوله: أغلبية المراجع والكتب العلمية، خاصة بطلبة كليات الطب والعلوم والهندسة، الذين عادة ما تشكل لهم أسعار الكتب والمراجع عبئاً مالياً كبيراً، خاصة للمغتربين منهم، وأشعر بالسعادة عندما يجدون عندي ضالتهم، وأتساهل معهم في السعر لأقصى درجة، فهم طلبة علم وأوصانا بهم رسولنا الكريم وديننا الإسلامي الحنيف. يرى العم حسين أن الشارع استمد شهرته من زيارات مشاهير الثقافة والفكر المتكررة له، وأشهرهم لورانس داريل- صاحب رباعية الإسكندرية التي أشار للشارع بها، وقام بزيارة الشارع نهاية الثمانينات خلال زيارته للمدينة الساحلية- إضافة لأديب نوبل الراحل نجيب محفوظ، الذي كان يحرص على المرور به في زيارته للإسكندرية في فصل الصيف، وهي عادة ظل يواظب عليها طوال قرابة 25 عاماً، إضافة للروائيين الكبيرين، جمال الغيطاني وإدوارد الخراط، والكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة الذي كان يقيم بالإسكندرية خلال فصلي الشتاء والخريف، ويرتاد الشارع بصفة مستمرة خلال طريقه للمقهى في محطة الرمل. يرفض العم حسين الآراء التي ترى أن التكنولوجيا الحديثة ساعدت على انحسار القراءة الورقية، بقوله: مهما تطورت التكنولوجيا فلن تستطيع سحب البساط من الكتاب، ولن تضاهي متعة الإحساس بملمس الورق بين يدي القارئ، والشعور بالحميمية والدفء، فمتعة الكتاب الورقي ستظل ولن تتغلب عليها التكنولوجيا مهما تطورت- حسب قوله.
مشاركة :