بين المتخيّل، الخرافة، الأسطورة، والواقع بما يحمله من تخبّط وحزن وحنين وقسوة ومفاجآت وطموحات ونجاحات وانكسارات، ينسج توفيق فروخ جُمله الموسيقية السردية وصوره الشعرية في أسطوانة «المدن غير المرئية» التي أطلقها مساء أمس في بيروت حيث سيكون له فيها حفلة خاصة في «ميوزكهول» في 7 كانون الأول (ديسمبر) المقبل، بالتزامن مع «المهرجان العربي للأفلام القصيرة». يحاكي الموسيقي اللبناني في ألبومه السادس ومن خبرة إثنين وعشرين عاماً من التأليف والأداء الموسيقي، في هذا العمل الجديد، المتحرر من قيود التصنيفات الموسيقية، رواية الإيطالي إيتالو كالفينو «Le città invisibili»، التي تحمل بين فصولها قضايا فلسفية وجودية وإن كانت تمزج بين العبثي والخيالي والحقيقي، وتطرح أسئلة حول الانتماء والحميمية وعلاقة الإنسان بالمكان. وهي قضايا لا تزال ملحّة حتى اليوم. لكن فرّوخ الذي استعار من الرواية اسمها، استطاع أن يخيط حكاياه وقصصه التي تجسّد حياة الإنسان المعاصر الذي يتخبّط بين تاريخه وحاضره وبين هويته الفعلية وانتمائه إلى مدن عاش أو ترعرع أو عمل فيها. فالهوية المزدوجة التي تناولها إيتالو كالفينو متحدثاً عن لحظة الفعل وخياله، تتراءى لنا بين نوتات توفيق فروخ الحالمة والمجبولة بالحب والحنين الى المدينة التي نولد فيها، وتلك التي نحلم بالعيش فيها، وتلك التي نجبَر على تركها والعيش في مدينة أخرى، نازحين أو هاربين من الضغوط الاقتصادية والسياسية والحرب والموت، طالبين العيش بكرامة وحرية. جذبَت فروخ هذه الرواية الصادرة العام 1972، لأنها كما قال لـ «الحياة»: «تستكشف الخيال من خلال سرد ووصف لـ 55 مدينة موجودة فقط في خيال الكاتب الذي نسجها وجمعها في ثيمات مختلفة. لكنني انسحرت كلياً بفصول «المدينة والذاكرة» و»المدن والرغبة» و»المدن والأموات»». يخيَّل لسامع المقطوعات الثلاث عشرة، أن كاتبها رحّالة أو حكواتي يسير ويتنقل بين تشظيات المدن وذكرياته فيها، ورائحة الموت هنا وهناك، والفوضى المتّشحة بالضباب، والرغبة الجامحة في التغيير، والأفق المسدود، والأمل المنشود، والحب الضائع. ويوّثق تجربته بلغة موسيقية شاعرية سَلِسة تطرق باب القلب والعقل في تناقضاتها وواقعيتها وخيالها. لطالما كانت موسيقى توفيق فروخ تحاكي المكان في المقام الأول، ثم الذكريات والحنين الى الوطن المفقود أو الوطن الحلم، خصوصاً في «علي في برودواي» و»أسرار صغيرة» وفي «أغنية حنينة» تحديداً في ألبوم «توتيا». وعادة التعلق بالأمكنة هي سمة نراها في الروايات والسرد، وفي السينما. ومن المؤكد أن موسيقى فروخ فيها نزعة مشهدية وسينمائية... ولكن، في أسطوانة «مدن غير مرئية»، كبُر المكان ليتّسع ربما الكون المتخيّل ومدن زارها الفنان اللبناني، ولها في قلبه ذكريات مثل القاهرة أو قرى مثل «Villes sur Auzon» في ريف الجنوب الفرنسي أو أحياء مثل القنطاري في بيروت. لماذا يربط فروخ غالبية أعماله بالمكان؟ يجيب هذا الرجل المسكون بوطنه، «إذا كانت الموسيقى تعرّف بمجتمع ما... فهي وسيلة لتأكيد الانتماء إلى مجموعة فنية أو ثقافية ما. و»المدن غير المرئية» يطمح إلى تجسيد هذه الأفكار والتساؤلات عبر الموسيقى، من دون امتياز أو تنازل حيث القلق والطموح يلتقيان». حرية الإبداع والفكر هي الأساس وهل ذلك يعتبر خطّاً مسارياً لأسلوب فروخ أم أنه يعكس شخصيته وكيف يرى الأمور؟ يفيد بأن «الأسلوب عندي ليس هو الأساس. الأهم هو حرية الإبداع والفكر. فالتأليف هو الرغبة أو الحاجة الى إيصال المشاعر أو المفاهيم المجردة أو أن يقتصر الأمر على طموحات جمالية بحتة. نعتمد في التأليف على أنماط لها علاقة بثقافتنا وتاريخنا والذاكرة... ذاكرتنا السمعية. لكن التأليف يرتقي الى مجال الفن (Domaine Artistique) خصوصاً عندما يتجاوز الاستيعاب، عندما يبحث عن غير المألوف أو الجديد عبر استخدام تقنيات ونظريات مألوفة أو العكس من خلال المعارضة لهذه الأدوات». يعتبر البعض أن فروخ في هذا المنحى يأسر موسيقاه بثيمة الحنين الى الوطن وأسئلة الانتماء، وبالتالي نشعر في مكان ما بأننا سمعنا هذه المقطوعة (على رغم جماليتها وقوتها) من قبل، وأن هناك تكراراً في الجمل الموسيقية. فما ردّ الموسيقي الذي ألف مقطوعات لكثير من الأفلام منها «أرض مجهولة لغسان سلهب و «فلافل» لميشال كمون و «السلّم إلى دمشق» لمحمد ملص؟ يردّ: «نحن خليط معقّد لعوامل عدّة غير مستقرة أو ثابتة، مما يشكل هويتنا الثقافية. المفارقة للثقافة ليست فقط حقيقة تاريخية، هي كاللغة مثلاً دائماً إلى تغيير. الجذور، الثقافة، التاريخ الشخصي والجماعي، كل ذلك يسري داخل أنفسنا. فمن خلال التعبير عن الحميم والاجتماعي، الشخصي والثقافي، في عالم يتحول بفعل العولمة والشبكات الاجتماعية، أتساءل عن مفهوم الانتماء؟ يجب علينا ان نفتش عميقاً للعثور... هذه الرغبة في السير على حبل مشدود، التجريب ومحاولات الذهاب في الممرات الصعبة وربما التعثر أحياناً وعدم الخوف من هذا التعثر! سمعنا مراراً أن «السعي نحو الكمال هو حق نبيل لأي فنان» هذا صحيح، ولكن ليس هو الهدف». في مقطوعة «ريو دي كايرو» يعود فروخ الى أسلوب التلميح أو الاستعارة من أغنيات قديمة، الذي استخدمه في «توتيا». وهنا يستعير من «أنا والعذاب وهواك» لمحمد عبدالوهاب. كما يستعير من الفولكلور الروماني في مقطوعة «أنجلا» (Angela). ويستوحي من ليريو بانيكالي في «لايدي مون» (Lady moon)، ومن جوزيه دي ماريا دي أبرو في «فريز أوت» (Freez out). يبدو أن التلميح الموسيقي أصبح أسلوباً متّبعاً لدى صاحب «أسرار صغيرة»، فلماذا يعتمده؟ وهل يرى فيه غنى لأعماله؟ يفيد فروخ بأن هذا الأسلوب هو «بناء على ما جاء من قبل وحمل هذه الأفكار إلى مستويات جديدة من التعبير... إنها الطريق لهذه الموسيقى لتتطور ولتصبح حقاً امتداداً لما كانت عليه». فرّوخ المتأثر بموسيقى دكستر غوردن في الولايات المتحدة، استخدم في «المدن غير المرئية» آلات شرقية أقل من أعمال أخرى؟ كيف وزّع هنا الآلات وعلى أي أساس اختارها، ليخرج العمل بهذه السلاسة والتسلسل كأنه رواية موسيقية تتضمن قصصاً قصيرة منفصلة متصلة؟ يؤكد فروخ أن «اختيار الموسيقيين لتنفيذ المشروع، هو توازن دقيق ومسؤول، ولكن فعل الاختيار بحد ذاته هو امتياز للمؤلف الموسيقي. عندما نستمع إلى عمل موسيقي ما، طبيعة الآلات تحيلنا إلى قسم من مرجعيات المؤلف وتشير إلى مزاجة الفني» ويضيف: «أسعى إذاً إلى تلاقي الموسيقيين في إطار سيناريو محدد، حيث كل واحد منهم يحافظ على طبيعته بقدر المستطاع». «المدن غير المرئية» تحمل أفكاراً فلسفية واجتماعية ونفسية، لكنها تحمل أيضاً كثيراً من الرومانسية الواقعية الحيوية، والأسطر الإيقاعية القوية التي تحافظ على تدفق سَلِس طوال العمل وتشكل ملامح غنية وناضجة لهذا العمل. إنها أسطوانة تستحق الاستماع لأنها تحاكي أرواحنا قبل آذاننا. وكلّما سمعتها اكتشفت فيها مزايا جديدة أو قصصاً مخبّأة.
مشاركة :