ارتبط اسم الشاعر المصري محمد سليمان باسم ديوانه الثاني «سليمان الملك»، بل انه أصبح في كثير من الأحيان معادلاً فيزيقياً لحضور الشاعر بين أصدقائه، فلا يخاطبونه إلا به. هكذا وضع سليمان أولى لبنات أسطورته الخاصة في العام 1990، مروراً بـ «الأصابع التي كالمشط»، «هواء قديم»، «تحت سماء أخرى»، «أعشاب صالحة للمضغ»، «اسمي ليس أنا»، «دفاتر الغبار»، «أوراق شخصية»، «أكتب لأحييك»، إضاءات»، «كالرُسلِ أتوا». توزعت تجربة محمد سليمان إذاً على اثني عشر ديواناً تضمنتها ثلاثة مجلدات، صدرت حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بمقدمة للناقد عبد الناصر حسن. ومن يتأمل هذه التجربة يرى أنها تمتعت بحسّ رومنطيقي عن الذات والعالم المحيط بها، بدءاً من ديوان «القصائد الأولى» الذي سادته أجواء القرية كخلفية لتجربة شبه صوفية، قبل أن تتعمق في «سليمان الملك»، الذي وضعه ضمن أبرز شعراء السبعينات المنتمين إلى حلقة «أصوات»، مع كلٍّ من أحمد طه، وعبد المقصود عبد الكريم، وعبد المنعم رمضان، ومحمد فريد أبو سعده، ومحمد عيد إبراهيم، والراحل وليد منير وغيرهم، في مواجهة حلقة «إضاءة» التي ضمت كلاً من الراحل حلمي سالم وحسن طلب وجمال القصاص ورفعت سلام وأمجد ريان ومحمود نسيم. ظلّت الرومنطيقية هي الجانب الأبرز في مسيرة محمد سليمان، فلم يتورط في السياسي الذي جذب الكثير من رفاقه في الكتابة، ولم يُغرق نفسه في اللغة كما فعل أكثر أبناء السبعينات، إنما ظلّ الابن البار لتجربة محمود حسن إسماعيل وصلاح عبد الصبور، على رغم تداخل بعض أصوات شعراء طغوا بتجربتهم الكبيرة على شعراء السبعينات ككل، في مقدمهم محمد عفيفي مطر وأحمد عبدالمعطي حجازي ومحمود درويش. بقي سليمان في إطار تجربة الريفي الهادئ الذي صدمته القاهرة، والذي عاني في محاولة الجمع بين أمه الطبيعية وزوجة أبيه القاسية؛ «المدينة والبرد/ زنزانتان/ وأنت النبي تسلَّحت بالضعف/ هل تركض الآن فوق ضلوعك/ غطس جروحك يا سيدي في الفؤاد/ وغطس فؤادك في الصمت/ واستقبل النار/ علق على لهب العشب أمنية صرعتها الشوارع/ والحجر المتمدد من بؤبؤ العين حتى المحيط/ وقل للحمام المدينة ليست لباساً/ ولا وطناً للهديل/ المدينة مذبحة». كان سليمان وفياً للمدرسة التي ارتضاها لنفسه. بدأ - على غرار معظم شعراء جيله - من النص العمودي، وسرعان ما تحوَّل في المرحلة الجامعية إلى النص التفعيلي أو قصيدة الشعر الحر، ليكتب على غرار عبد الصبور وحجازي ونازك والسيَّاب. ومع أن معظم أبناء جيله تحولوَّا مع مطلع التسعينات إلى قصيدة النثر، ظلّ هو وعبد المنعم رمضان حريصين على الانتماء الى قصيدة التفعيلة. بل إنّه لم يعترف بقصيدة النثر ولم يخفِ رأيه بها، وإن جاء هذا الرأي أقلّ حدة من عفيفي مطر. وقد حرص سليمان على علاقة طيبة مع كثير من التيارات والمدارس، مثلما حرص على أن ينحت الأسطورة الخاصة بـ «سليمان الملك»، تلك التي تقول: «ارسم بحراً وادعوه نوراً/ ارسم ساحلاً وأخطو/ هل الجسد عملة النهاريين لا تزال الغمزة/ ولا يزال الخال... كيف يكون ظل ولا تكون... ذهب/ من نوافذها لم يزل يهب. ذهب ورمانات/ باتجاه البحر/ هل هي الأنثى؟». في «سليمان الملك»؛ نجد البحر والقرية والمدينة والشوارع، مثلما نجد التاريخ والغبار ووحيد القرن الذي تعامل الشاعر معه بوصفه معادلاً للوحدة في زمن الدهشة والقسوة والزحام. نلتقي أيضاً بـ «سليمان»، صاحب الخيل والريح والممالك؛ عاشق «نورا» التي «لثوبها رائحة الجميز ولثديها روح البحر». نجد وحيد القرن يتشظى دمه في الغابات، بينما جاره يحلم بجناحين وعطر باريسي ويثرثر حين تهب الريح عن الحرية ودهاليز الجسد وحق الأنثى. حين نتأمل عناوين سليمان، نعرف أننا أمام ذات مشغولة بتأكيد وجودها في مواجهة المحو الذي يعصف بكل شيء: «اسمي ليس أنا»، «أوراق شخصية»، «أكتب لأحييك». هي عتبات للدخول إلى عالم ذات لا تكتب انطلاقاً من كونها لسان حزب أو جماعة، وإنما انطلاقاً من السعي للتعريف بنفسها، مستعرضة أوراقها الشخصية والعائلية، وتاريخها العام والخاص، ومكانها في دوائره المختلفة، وانتقالاتها من القرية الصغيرة إلى القاهرة، ثم إلى ولايتي أيوا وشيكاغو الأميركيتين، حيث وجدت نفسها «تحت سماء أخرى». نحن إذن لسنا أمام حوار بين الشمال والجنوب، كما قدمه طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما، ولكن بين الشرق والغرب على نحو ما قدَّمه جبران. ومن ثم نجد الدعوة الى التلاقي والتحاور وقبول الآخر، ونجد إحالات إلى كل من والت وايتمان وآلان جنسبرغ وهيمنغواي وهنري ميللر وديلان توماس وماريا فاندلين وغيرهم... «ولد هنا/ وولدتُ هناك/ هذا هو الفرق بيني وبين والت وايتمان/ قلت للميسيسبي/ قال الحدائق لم تكن حدائق/ وكل نهر بحاجة الى عصا». احتفت تجربة محمد سليمان بالبساطة والسرد، وانتفى عنها الإنشاد أو الوقوع في الغموض أو المعاظلة، ما جعلها التجربة السبعينية الأقرب إلى روح شعراء التسعينات، على رغم أنهم ينتمون إلى قصيدة النثر. فالمشتركات التي تجمعهم بسليمان أكبر من الوقوف أمام العروض والقافية، ومن التفكير في البحر والوتد المجموع أو المفروق. ثمة روح تمتاز بالتجدّد والحس الرومنطيقي والإيقاع الهادئ الذي لا نسمع من خلاله جلجلة حروب النظم، لنجد حالة شعرية صافية وخالصة، لا يشغلها سوى تأكيد وجودها الإنساني في عالم طحنته الرأسمالية المتوحشة. وبالتالي، فإنه يدير ثورته الكاملة ببساطة على الورق، موقناً أن الورق لدى الشعراء بديل العالم، أو كما قال: «لكي استريح قليلاً/ وأنسى الذئاب التي حاصرتنا/ والحروب التي نبتت في الشوارع/ واختبأت تحت ثوبي/ لكيلا أصير نحيلاً هائماً في البراري/ أو حصاناً مسناً/ وكيلا يعشش في مقلتي الدخان/ ويحبو غداً في كتابي/ سأعلن حرباً هنا في الورق».
مشاركة :