النسخة: الورقية - سعودي بالتأكيد لن يطوي التاريخ صفحة جماعة الإخوان المسلمين ليس لأنها صُنفت أخيراً منظمة إرهابية، ولا لأن قادتها يقبعون في السجون، ولا لأنها خسرت جولة حاسمة في معركة الصراع على السلطة في أكبر بلد عربي. لا أعتقد أن التاريخ يأبه بهذه الأشياء، بل ربما أنه يهزأ بنا الآن، ويقول إن تلك الإجراءات التي اتُخذت في حق الجماعة كانت بمثابة عملية للتنفس الاصطناعي.. عملية كانت تنتظرها الجماعة منذ زمن بعيد، بعد أن فقدت صلتها بالواقع وأضاعت طريق المستقبل، فأدت تلك الإجراءات إلى إطالة عمر الجماعة لبعض الوقت بدلاً من أن يأخذ التاريخ مجراه الطبيعي الذي لا يجامل فيه أحداً ولا يرحم به صغيراً ولا كبيراً. ربما تكون حكاية تأسيس جماعة الإخوان المسلمين معروفة لدى القراء الكرام، وربما كانت تفاصيل خلافها مع حركة الضباط الأحرار معروفة أيضاً، ولكن يجدر التنبيه إلى أن تلك البدايات المضطربة ساعدت الجماعة في أن تتبوأ مركز الصدارة كأقوى حركة شعبية معارضة للوضع السياسي الذي كان سائداً في مصر آنذاك، فأكسبها تعاطفاً على امتداد العالمين العربي والإسلامي، وساعدها في تكوين خلايا «إخوانية» في معظم دول العالم تقريباً، من خلال تأسيس أحزاب سياسية أو جمعيات خيرية أو منظمات طلابية في كل بلد دخلته الجماعة، وبحسب الظروف التي وجدتها في تلك الدول، كما أن تلك الظروف ساعدت الجماعة في التغلغل وسط الجاليات المسلمة في الغرب، فوجدت في مناخ التسامح والحرية فرصة للهيمنة على المراكز والمؤسسات الإسلامية هناك. مثّلت عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي مرحلة ازدهار الجماعة فكرياً وتنظيمياً لسببين رئيسين، الأول: الأبواب المشرعة التي وجدتها الجماعة في دول إسلامية وغربية كثيرة، ومن بينها دول الخليج العربية التي وفرت لقادتها الملجأ والحماية والدعم المادي، والسبب الثاني: الفراغ الفكري والسياسي الذي أنتجته نكسة عام 1967، التي سقطت معها الحركات القومية والماركسية العربية، فأدى ذلك كله إلى نشاط فكري وتنظيمي للجماعة في مؤسسات التعليم العام والعالي في كثير من الدول، وإلى تأسيس جمعيات للدعوة والإغاثة، فاستطاع الدعاة المحسوبون على جماعة الإخوان الوصول إلى موقع النجومية، للتبشير بنهضة عربية إسلامية جديدة طالما تغنى بها الشعراء وحلم بها الشباب. ولكن الجماعة واجهت تحدياً لم يكن متوقعاً في عقدي الثمانينات والتسعينات، وذلك عندما صعدت إلى المنبر الديني جماعات ومنظمات أخرى زاحمت الجماعة في الساحة الدعوية والإغاثية والسياسية أيضاً، وزاحمت الجماعة في الظهور بسمت «الصلاح» و«الهداية» و«النور الرباني»، وانطلقت بعضها إلى أبعد من ذلك باتهام الجماعة بالخنوع والتخاذل والقبول بالأمر الواقع، ودلفت بعضها لمناقشة الأسس الفكرية التي قامت عليها الجماعة فانتقدتها في صميم عقيدتها، فبينت أنها لا تسير على منهج السلف الصالح وعلى الصراط المستقيم، وبسبب هذه التحديات انشقت عن الجماعة الأم، جماعات وفرق ومنظمات وأفراد، كلها تقريباً اختلفت في كل شي عدا نقدها للجماعة وبيان انحرافها وخطئها. إذاً فبدلاً من أن تكون موجة «الصحوة» الإسلامية - بما في ذلك مرحلة الجهاد في أفغانستان - داعمة لجماعة الإخوان المسلمين ومعززة لمكانتها كما كان متوقعاً، إلا أنها كانت وبالاً عليها على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، فالكتب التي كان تعبر عن فكر الإخوان تراجعت أهميتها لدى جمهور الصحوة، والفعاليات الشبابية من أنشطة ومخيمات ورحلات اُختطفت من جانب جماعات سلفية وجهادية منافسة، والمؤتمرات الصاخبة التي كانت تنظمها الجماعة في أوروبا وأميركا أصبحت أثراً بعد عين، ونتيجة لذلك انكفأت الجماعة على نفسها، وحاولت مسايرة موجة الصحوة فكرياً بالتبرؤ من بعض أطروحاتها الدينية التقليدية، ثم حاولت مجاراة الوضع السياسي العربي بمداهنة الأنظمة الحاكمة، ومحاولة العمل من داخل الأنظمة السياسية. هذه الهدنة استمرت مدة عقد كامل تقريباً، ولكن الجماعة تفاجأت كما تفاجأ غيرها من الأحزاب والجماعات السياسية العربية بانتفاضة الشعب الغاضبة في تونس، التي أسقطت نظام ابن علي في أيام معدودة، ورأت أن تلك الانتفاضة الشعبية لم ترفع شعارات الإخوان المسلمين، ولم ترفع شعارات «الصحوة الإسلامية»، بل رفعت شعارات مختلفة هذه المرة تمثلت في المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية، وعندما بدأت تحركات الشباب المصري للتحضير لانتفاضة مماثلة في أرض الكنانة لإسقاط نظام مبارك، ارتبكت الجماعة وأحجمت في البداية عن مساندة التحضيرات والتحركات التي كان يقوم بها أولئك الشباب على بعد خطوات من مقر الجماعة ومكتب إرشادها، ثم لما رأت إصرار الشباب ونزولهم للشارع وكسرهم حاجز الخوف، وبدأت الكفة ترجح لمصلحة الثوار الشباب بشعاراتهم البسيطة، انضمت الجماعة للثورة لمحاولة عدم تفويت الفرصة التاريخية التي لاحت في الأفق، والتي انتظرتها طويلاً من دون جدوى. ولكن الجماعة نتيجة لكونها تمر بمرحلة الشيخوخة وبمستوى متقدم من «الزهايمر» السياسي سقطت سريعاً عندما تنكرت لأولئك الشباب وطعنت الثورة في خاصرتها، وعندما اعتقدت بأن قوتها التنظيمية على الأرض وبما تمتلكه من أذرع دعائية وشبكات ميدانية كافية لأن تستحوذ على المشهد السياسي، وسقطت أيضاً عندما توقعت أن الديموقراطية مجرد صندوق اقتراع، وأن الحرية مجرد قناة تلفزيونية، وأن الكرامة مجرد الاحتشاد في الشوارع والميادين. قصة جماعة الإخوان المسلمين تصلح أن تدون في كتب التاريخ، فلم يعد الشباب المثقف يأبه ويقرأ ويتأثر بكتب مفكريهم البارزين، ولم يعد الشباب المنتظم في العمل السياسي يبحث عن رؤى وأفكار جديدة وخلاقة في ما يطرحه دراويش مكتب الإرشاد من بيانات وقرارات سياسية، أما علماء الشريعة فلم يأبهوا أصلاً بما أنتجته الجماعة من دراسات شرعية أو فتاوى فقهية، ولم يتبق سوى علماء التاريخ الذين أحسب أنهم شحذوا أقلامهم لكتابة الفصل الأخير من تأريخ الجماعة غير المأسوف عليها. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مشاركة :