فيلم الخيال العلمي "آريفال" الأكثر ذكاءً منذ سنوات

  • 11/15/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

وقتٌ طويل مضى منذ أن استقبلت دور السينما فيلماً من فئة الخيال العلمي يُكرس نفسه بشكل مباشر لمعالجة أفكارٍ كبيرة ومهمة، رغم طابعه التجاري. وقد اتسم أخر فيلميّن له؛ "بريزونَرز" (سجناء) و"سِكاريو" (القاتل المأجور) ببطء في الإيقاع إلى حد البلادة، وبكونهما مُفعميّن بإحساس بالتيه والزهو والغرور. ولو نزعت عنهما ما أُضفي عليهما - من على السطح - من تعقيدات ومشكلات أخلاقية وروحية مُصطنعة، سيتكشفان عن خداعٍ وادعاءٍ مُتقنيّن لا أكثر تقريباً. أما أحدث أعماله "آريفال" (الوصول)؛ فيمثل لقاء فيلنَيف الذي طال انتظاره مع موضوعٍ وسيناريو يتساويان في الأهمية مع الثقل والاهتمام اللذيّن يمنحهما لهما. وكل ما تطلبه الأمر، لم يتجاوز معالجة موضوع ظهور كائنات فضائية غريبة على سطح الأرض. وتسير القصة في محورين متوازيين؛ أحدهما استدعاء خبيرة لغوية موهوبة لفك شفرة القرقرة الخفيضة المسموعة بالكاد التي تصدر عن هذه الكائنات. أما الآخر فيتمثل في تقبل هذه الخبيرة، التي تُدعى لويز بِنكس (تجسد شخصيتها الممثلة آمي آدامز)، تدريجياً لحقيقة وفاة ابنتها. (لا إفساد من جانبي هنا لمتعة المشاهدة، لأن كل ما سُرِد في السطور السابقة، يُذكر في الدقائق الأولى من العمل). على أي حال، تظهر الكائنات - التي يُطلق عليها اسم "هبتبودس" (أو سباعية القرون نظراً لما يحتوي عليه جسدُ كلٍ منها من زوائد سبع) - في ذات يوم على متن سفن فضاء مستطيلة الشكل رمادية اللون، تبدو كما لو كانت حصي هائلة الحجم. وتحلق هذه السفن بشكل غير مألوف فوق العديد من بقاع العالم بما فيها حقلٌ في ولاية مونتانا الأمريكية. وتبدو تلك السفن، البالغ عددها 12، بمثابة حواريي مُخَلِّصٍ ربما لن يأتي أبداً. وعلى نحوٍ غير مفهوم أيضاً، تراود لويز ذكرياتٌ ورؤى بشأن ابنتها الراحلة، في أوقات تباغتها هي نفسها، مُمزقةً بذلك الطابع الرمادي - المشابه للون سفن الكائنات الفضائية - الذي يسود العمل. وصول الـ"هبتبودس" يأتي دون سابق إنذار، وبلا تفسير أيضا؛ إذ يبدو أن هذه الكائنات تفتقر لأي برنامج بوسعها التعبير عنه أو بمقدورنا فهمه. لكن مجرد وجودها يُبدل حياة شخصيات الفيلم رأساً على عقب. فالسلطات الأمريكية تطلب من لويز المساعدة للتواصل والتفاهم مع الـ"هبتبودس"، بعدما باءت كل المحاولات السابقة في هذا الشأن بالفشل، بفعل الفجوة الهائلة عميقة الجذور التي تفصل بين لغة تلك المخلوقات واللغة الإنجليزية. فالـ"هبتبودس" لا يفهمون العالم ومفرداته في صورة "فعل وفاعل ومفعول به" كما نفهمه نحن. لذا ينطوي فهمنا لهم وللغتهم على تحدٍ ليس فقط لما نعتقد أننا نعرفه، بل أيضاً للطريقة التي توصلنا إلى معرفته بها. وهكذا يبدو أن الفيلم المُستوحى من قصة قصيرة تحمل اسم "ذا ستوري أوف يور لايف" (قصة حياتك) للكاتب تد تشيانغ، يتضمن أفكاراً عميقة. أليس كذلك؟ ربما لهذا السبب، يخفف السيناريو الذي كتبه إريك هيسرر من بعض ما ورد في هذه القصة من أفكارٍ معقدة للغاية، بل ويحذف جانباً منها تماماً. ولكن لحسن الحظ ينجو الكثير من هذه الأفكار خلال عملية التحويل هذه، فـ"آريفال" عملٌ فريدٌ من نوعه، نظراً لأنه فيلم خيال علمي ذو ميزانية ضخمة ومُكرسٌ لمعالجة قضايا مهمة بحق. ورغم أن فيلنَيف يتبع في إخراجه لهذا العمل - وبوضوح - أساليب المخرج ستيفن سبيلبرغ، بدلاً من أن يمضي على طريقه الخاص في هذا الشأن؛ فإنه ينجح في رسم ملامح صراعٍ جليّ ومدوٍ. ويدور ذلك الصراع بين من يريدون دراسة هذه الكائنات الغريبة لأغراض المعرفة العلمية، وبين من يتمثل تخوفهم الأساسي في حدوث سيناريو سيئ مفاده إمكانية تعرض الأرض لغزو من قبل مثل هذه الكائنات، أو ينصب اهتمامهم على أمرٍ لا يقل عن ذلك سوءاً، ألا وهو المميزات العسكرية التي يمكن الحصول عليها عبر التعاون مع الـ"هبتبودس". في الوقت نفسه، تبقى سفن تلك الكائنات مبعثرة حول الأرض بشكل عشوائي على ما يبدو. وفي لحظة نادرة من النزق والهزل في فيلمٍ لا يحفل إلا نادراً بمثل هذه اللحظات، يتمثل أفضل تفسير يمكن تقديمه في هذا الشأن في أن البلدان التي هبطت فيها تلك السفن، سبق وأن ذُكرت في عملٍ حقق نجاحاً هائلاً للمغنية اسكتلندية المولد شينا إستون في ثمانينيات القرن الماضي. Image copyright Getty Images Image caption رغم أن أن المخرج دنيس فيلنَيف يتبع في إخراجه لهذا العمل - وبوضوح - بعض أساليب المخرج ستيفن سبيلبرغ، فإنه ينجح في رسم ملامح صراعٍ جليّ ومدوٍ، كما يرى الناقد الفني سام آدامز وبحسب أحداث الفيلم، ينضم إلى لويز في فريق الباحثين عن المعرفة عالمٌ في الفيزياء النظرية يُدعى إيان دونللي (يجسد شخصيته جيريمي رينر)، يحاول جَسْرَ الفجوة اللغوية باستخدام لغة العلم لا لغة الكلمات والحروف. لكن جهود الفريق تتعرقل مرة أخرى. فالمفاهيم التي تبدو أوليّة وبسيطة بالنسبة لنا، تتسم بالصعوبة والتعقيد في نظر الـ"هبتبودس"، والعكس بالعكس، إلى حد أن الأمر يبدو كما لو كان محاولةً من هذه الكائنات لقراءة دائرةٍ للمعارف، من آخر حروفها وليس العكس. وبالتوازي مع فشل محاولات التواصل مع الكائنات الغريبة هذه، يتصاعد قلق العالم وتوتره، ويتكدر صفو الأسواق، وتتزايد أعمال الشغب بين البشر، وتبدأ حكومات الدول في التشكك في مدى التزام بعضها البعض بالوفاء بما تعهدت به في بادئ الأمر من أن تُطلع كلٌ منها الأخرى على المعلومات التي تحصل عليها بشأن الـ"هبتبودس". وهنا يبدو الجيش الصيني، الذي يتمثل بشكل رئيسي في الفيلم في صورة جنرالٍ يُدعى "شانغ" (يجسد شخصيته الممثل تسي ما)، كما لو كان "غولاً" أو "بُعبُعاً" متعدد الأغراض والاستخدامات، وهو تصورٌ تتساوى احتمالات كونه واقعياً، مع إمكانية أن يكون مجرد فكرة كامنة في أذهان مسؤولي الحكومة الأمريكية، التي تتزايد عصبيتها وتقلبها بمرور الوقت. وتحت السطح الظاهري للأحداث، تكمن فكرة ربما لا تتسم ببراعة خاصة أو متفردة ألا وهي: كيف سيتسنى لنا الشروع في التعرف على نوعٍ آخر من الكائنات، إذا كنا لا نعرف النوع الذي ننتمي إليه نحن أنفسنا؟ من خلال زجاج معتم بمرور الأحداث، يتبين أن ما ينطق به الـ"هبتبودس" يستعصي على الفهم أو القراءة، ويبدو أشبه بتأوهاتٍ أو أنين يهز السينما. رغم ذلك، تجد لويز وسيلةً للشروع في فهم اللغة المكتوبة لهذه الكائنات، وهي تلك التي تتخذ شكل دوائر سائلة قاتمة اللون كالحبر، وتبدو مفعمةً بالحياة مثلها مثل الـ"هبتبودس" أنفسهم. اللافت أنه لم يتسن للويز أو أيان أو لأيٍ من تابعيهم المدججين بالسلاح ممن يرافقونهم على الدوام - دون أن تُذكر لهم أسماء - إقامة أي اتصال مادي أو تلامس جسماني مع الـ"هبتبودس". فكل اللقاءات بين الجانبين تجري بداخل سفن تلك المخلوقات الغريبة، ويواجه فيه الفريق البحثي مستطيلاً نصف شفاف، قد يكون لوحاً زجاجياً أو شاشةً عالية الدقة للغاية. وتظهر أجساد الـ"هبتبودس" بشكلٍ جزئي عبر هذا المستطيل، من خلال ما يبدو ضباباً متصاعداً. (في هذا الفيلم، يتعاون المخرج فيلنَيف للمرة الأولى مع المصور السينمائي برادفورد يانغ، الذي أبرز التفاصيل الدقيقة في مشاهد الخدع السينمائية التي أُعدت باستخدام الكمبيوتر). ومع تطور أحداث الفيلم، يتبين أنه كلما اقتربت لويز من فهم لغة الـ"هبتبودس"، تبدأ في التفكير على شاكلتهم بشكل أكبر، وتعاودها المزيد من الذكريات الخاصة بابنتها على نحوٍ أشد قوة وصفاءً ووضوحاً، على ما يبدو. فضلاً عن ذلك، تبدأ الطريقة التي تنظر بها لويز إلى العالم تتغير هي نفسها، كلما توغلت في لغة الـ"هبتبودس". (ولا يسعني قول المزيد في هذا الشأن وإلا كشفت عن تفاصيل أحداث العمل). ولكن هذه الخبيرة اللغوية تُخفي ما يراودها من رؤى وتكتمها في نفسها، عوضاً عن البوح بها. ومن بين كل ما يدين به "آريفال" لستيفن سبيلبرغ، كون لويز شخصيةً رُسمت على نحو مناقض تماماً لشخصية المبشر العصبي المهتاج، التي جسدها ريتشارد درايفوس في فيلم "كلوز إنكاونتر أوف ذا ثيرد كايند" (لقاءات قريبة من النوع الثالث). وتجد لويز في كولونيل أمريكي (يجسد دوره الممثل فوريست ويتيكَر) حليفاً غير متوقع قابلاً لتلقي ما لديها. رغم أن اللكنة العصية على التصنيف التي يتحدث بها هذا الرجل خلال تجسيده للشخصية، تبدو كما لو كانت تستهدف اختبار مهارات أكثر الخبراء اللغويين مقدرة وكفاءة في العالم. وتنساب أحداث فيلم"آريفال" على نحو شديد السلاسة في جزئه الأخير، الذي يعتمد فيه صناعه على أن أعيننا ستكون مغمورةً خلاله بالدموع، بقدرٍ يجعلها عاجزة عن ملاحظة ما يعتري الحبكة فيه من إيقاع شديد البطء. لكن ذلك لا ينفي أن هذا هو الفيلم الأول لـ "فيلنَيف"، الذي نشعر فيه بأن الطابع المفرط في العواطف والانفعالات الذي يسبغه هذا المخرج على أعماله، يبدو هذه المرة مُستحقاً بل ومُرحباً به أيضاً. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع .BBC Culture

مشاركة :