في مقالي السابق تكلمت عن اتصال اللهجة العامية بالفصحى عندما يكثر فيها استخدام الكلمات والتعبيرات ذات الأصل الفصيح، وكيف أن الفجوة تقل بينهما كلما زاد المشترك من الكلمات والعكس، وسأتكلم اليوم عن بعض المواضع التي تتباعد فيها العامية عن الفصحى نتيجة قابليتها للتغير والتحول لكونها أكثر حرية في التخلص من القيود والقواعد من اللغة المكتوبة، وبسبب انتشار العربية على مساحات واسعة من الأرض واحتكاكها بعدد من اللغات الأخرى، الأمر الذي أدى - وهو أمر طبيعي- إلى كثير من التحريف الصوتي والصرفي. وقد أدى التغير الذي طرأ على اللغة إلى ابتعاد الكلمات عن أصلها الفصيح إلى درجة يصعب أحياناً معرفة الأصل، وصور التحريف كثيرة منها إبدال الحروف، أو حذف بعضها، أو تسكينها، أو تغيير طريقة نطقها وغير ذلك، ومن أبرز التغييرات مايعرف بالنحت: وهو اختصار كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة، بحيث تتألف كلمة جديدة من بعض حروف الكلمات تكون دلالتها موافقة لما أخذت منه، ومن أمثلته في العامية: (بلاش): بلا شيء،(للحين): إلى هذا الحين،(معليش): ماعلي شيء،(ليش) لأي شيء. (شلونك): أي شيء لونك؟ أي: كيف حالك؟. صبّحه:أي قال له صباح الخير ومسّاه: قال له مساء الخير، (أربعطعش رجل): أربعة عشر رجلاً.. ويقال- والله أعلم - أن (سم) بتسكين الميم بمعنى أبشر أصلها سمعاً وطاعة. وفي بعض الدول العربية الأخرى يكثر استخدام النحت في الكلام، مثلاً يقال: (مفيش) أي:مافي شيء، و(لسّا) بتشديد السين أي للساعة، أي لم يحصل إلى هذه الساعة،( نيَّالو) بتشديد الياء أي: هنيئاً له، (عمنوَّل) أي العام الأول،(كرمالك) أي إكراماً لك، (ماكو) مايكون،(مورد) بفتح الميم والواو: ماء الورد. إن النحت الذي جرى في العامية له ما يقاس عليه في الفصحى منذ القديم، وقد ورد في كثير من كتب العرب، يقال : (حيعل) من حي على الفلاح، عبشمي نسبة إلى عبد شمس، (حوقل) أي قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. و(بسمل): قال: بسم الله، و(جعفل) أي جعلت فداك، (جلمود) من جمد وجلد، وكلمات أخرى كثيرة يضيق المجال عن ذكرها. إلا أن جنوح العامية نحو التبسيط والاختصار لتسهيل الكلام أثر في تراكيبها وأبعدها عن الفصحى وهذا ما يشكل خطراً على اللغة خصوصاً في ظل الضعف العام في الالتزام بالعربية الفصيحة، وتأثيرعوامل التغير الخارجي، وقد لوحظ من الأمثلة السابقة أن التحول عن الفصحى لم يكن بسيطاً، لذلك ينادي حماة اللغة بضرورة العمل على تفصيح الكلمات المستخدمة في الكلام، ونشرها، وتصحيح الأجنبي منها واستخدامه وفق الضوابط. ومع أن الدعوة مستمرة لتنمية اللغة الفصيحة وزيادة ثروتها بنحت وتركيب كلمات حديثة للتعبير عمّا يستجد مما لا ألفاظ له في اللغة ولا تفي كلمة واحدة بالمعنى، إلا أن بعض اللغويين يشترط أن يكون ذلك باعتدال وبشكل يلائم الذوق اللغوي السليم.
مشاركة :