أحمد واصل يقرأ جماليات الموسيقى العربية في مصر والسعودية

  • 11/15/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

"الفنون المترحلة في أغاني البحر الأحمر" عنوان البحث الذي شارك به الباحث السعودي أحمد الواصل في مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الـ 25 الذي أقيم خلال الفترة 31 أكتوبر/تشرين الأول – 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تحت عنوان "جماليات الموسيقى العربية بين الموروث والواقع الراهن" في القاهرة. وجاء البحث ضمن المحور الأول "الروافد الثقافية للموسيقى العربية التقليدية" ويتخذ فيه الباحث من منطقة البحر الأحمر مجال بحثه، محددة بـ "التراث الثقافي غير المادي" المشترك بين أكثر من دولة. يقول واصل "تمثل الجغرافيا التي يسكنها وارثو ومتحدثو العربية مختبر الحضارات كما أنها ملعب دورات التاريخ الكبرى، ومناطقها الأربعة تعد قارة تجمع أكثر من حدود قارية، وتعد حاويات شعوبها من الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية حتى أرض وادي النيل وشمال أفريقيا. وقد أسهمت هذه المنطقة في خلق ثقافات وارتحالها وانتشارها ووراثتها سواء في حواضرها الكبرى أو مدنها على طرق التجارة البرية وموانئها على السواحل، وكما عرفت حواضرها بوصفها مراكز المعرفة، فإن حدودها الساحلية مزجت ثقافات شعوبية سواء في الخليج العربي أو بحر العرب أو البحر الأحمر أو البحر المتوسط. ومن أبرز مزاياها الخزان البشري لأرومة واحدة من السلالات شمالية وجنوبية تعاقبت بأجيالها ومراحلها الحضارية، سواء توارثت المنجز الحضاري أو قطعت معه وشكلت ما أطلق عليه "المسألة الآرامية – العبرية" ما قبل الميلاد أو "ألمسألة القيسية – اليمنية" ما بعد الميلاد حتى الآن. زخرت هذه المنطقة بوصفها أرض "استقطاب حضاري" أولى مزاياه "الإدماج الاجتماعي" وأسوأها "الاضطراب السياسي"، ولكل أمر نقيض. كما أنها بسبب عاملي الجغرافيا ومعطياتها والتاريخ ومجرياته، نقشت عليها مراحل من النشوء والهجرات، كذلك الفناء والولادة الجديدة. ويضيف "هذه الحضارات لم تنقطع عن بعضها البعض فقد تجاورت الحضارة السومرية في العراق والدلمونية في الخليج العربي وشرق الجزيرة العربية، وامتدت العلاقات بين الحضارة الأكادية في العراق والحضارة الأمورية في الشام، وتقاطعت الحضارة الآشورية في شمال العراق والحضارة الثمودية في غرب الجزيرة العربية، وتجاورت الحضارة البابلية والحضارة الأوغاريتية في الشام، وتقاطعت الحضارة العمورية في الشام والحضارة الفرعونية في مصر، وتجاورت الحضارة الفرعونية والحضارة الليبية (شمال المغرب). وهذا ما أدى إلى استمرار المشترك في التراث الثقافي المادي والمعنوي، فلم تنعزل تلك المناطق عن بعضها البعض وتوافقت الأسباب الاجتماعية والدينية والاقتصادية قبل السياسية لهذا "المشترك الثقافي" فيما بينها، فنجد من آثارها المادية والمعنوية انتشار مظاهر الحضارة المختلفة ومنها الأكلات والملابس والأواني والآلات، وارتحال الآلات الموسيقية والمجاميع الأدائية والراقصة ونصوص الصلوات والمراثي والتمجيد وما سواها. وكون البحث يعرض لمسألة "المشترك الثقافي" عبر نموذجين من الفنون الأدائية في الحجاز، غرب المملكة العربية السعودية، هما فن الصهبة في الحجاز، في مكة المكرمة، وأغاني السمسمية، في ينبع، وهو ما يلاحظ من تعدد "الروافد الثقافية" وتداخلها أيضاً، خصوصاً، ما بين مجتمعات البحر الأحمر (السعودية، الأردن، مصر). يلفت الباحث إلى إمكانية أن يضاف إلى الصهبة بوصفه فن الحاضرة، والسمسمية بوصفه فن البحارة، السامر بوصفه فن البادية بطرق أدائه (القاصود والرديدة) ونصوص قوله (الردة) وخطوات حركته الراقصة (الدحية أو الدحة)، ورقصات أخرى مثل الرفيحي (سامري قروي - ناقوز) والمزهوم (هجيني) المشترك أيضاً في جغرافيا الدول المطلة على ذات البحر. وإذن، فإن في نموذج فن الصهبة، أو جماعة الصهبجية أو العصبجية، أي: جماعة أدائية تشكلت ما بين الشام ومصر واتخذت نموذجاً في الحجاز، وفنها الأدائي ترحل من بلد منشئه الأندلس بصورة ارتجاعيه إلى المشرق في الشام ومصر والعراق كما أنه اتخذ صوراً في الجزيرة العربية سواء في شرقها أو جنوبها، بينما أغاني السمسمية ورقصاتها، فهي فنون أدائية للبحارة والصيادين تنتمي إلى القبائل وأحلافها أو مجتمعات البحر الأحمر، وتنوقلت ما بين قرني البحر تبعاً لترحالها، ومن هنا لا يفي مصطلحا "التعدد الثقافي" أو في صورته التالية "التداخل الثقافي" للتعبير عن تلك الفنون الأدائية المشتركة، التي ينظمها "المشترك الثقافي" في عمر حضارات شعوبها ونظريات فنونها الثلاثة، على حواف الجغرافيا أو داخلها مثل فنون الصحارى في شمال الجزيرة العربية أو جنوب الأردن أو سيناء أو جنوب تونس أو المغرب ومقابلها مثل فنون البحر في الخليج العربي أو فنون الأهوار في العراق أو فنون الدلتا في مصر أو فنون جبال الأوراس في الجزائر، فإن في داخل الثقافة الواحدة، مثل الثقافة العربية – الإسلامية، الوارثة لثقافات شقيقاتها الكبرى سواء في الجزيرة العربية أو الهلال الخصيب أو وادي النيل أو شمال أفريقيا، والمنتشرة في بحسب حركة الجماعات البشرية من نزوح أو هجرات أو هجرات عكسية، وارتحال التراث الثقافي وتلونه بحسب البيئات المختلفة (ساحلية، وبرية، وجبلية، وريفية..) حالة من التفاعل الدائم". ويرى واصل أن في نموذجي فن الصهبة، وأغاني السمسمية، اللذين يتواجدان في مدن الحجاز، على ساحل البحر الأحمر مثل الوجه وأملج وينبع وجدة أو المدن الداخلية مثل المدينة المنورة ومكة المكرمة، ما يعبر عن تقاليد غنائية، ووظائف اجتماعية، وفئات اقتصادية، تتداول هذه الفنون وتنتشرها وترتحل معها وتفنى وتستعاد مرة أخرى". النموذج الأول: الصهبة الحجازية: يعتمد هذا الفن على جماعة أدائية، تتكون من الحادي مؤدي الموال، والشاووش مؤدي الودعة (نص الموشح أو الدور)، والسنيدة أو الرديدة (المنشدون الجماعيون) الذين تقام بهم الشيلة (الأداء المتواصل) ثم الشبشرة (ختام الأداء). ويستعرض البحث نموذجين لفن الصهبة، يكشفان أثر الهجرات الشامية والمصرية إلى مكة المكرمة، الأول مكون من موشح "أحن شوقاً"، ومن دور "ليه يا زماني". وأما الثاني، فهو مكون من موشح "ما احتيالي"، ومن دور "حسن الحبيب فايق"، ويعرض إلى أصول هذه الموشحات، فالأول موشح عراقي لعبدالقادر المراغي، ودوره مكي. أما النموذج الثاني فهو موشح سوري لأبي خليلي القباني، وأما الدور فهو مصري من تلحين محمد عبدالرحمن المسلوب سبق وأداه كل من مطربين في العقد الأول والثاني من القرن العشرين وهما سليمان أبو داوود، ومحمد سالم العجوز. ويعرض البحث إلى النموذج الثاني من فنون البحر الأحمر المشتركة بين السعودية ومصر، وهي "أغاني السمسمية" المخصصة للبحارة بين الشاطئين، وللفئة العاملة في المجتمعين بالإضافة إلى أنها أغاني في أصلها متداولة عند قبائل تعيش على امتداد الساحلين، فبعضها أغاني الفروسية والأعراس. ويعرف أن الأغاني تتنوع على إيقاعات عدة، منها المقسوم نموذجه "عمّي يا جمال" المتداخلة مع "قد حلبي"، والشرقين "اش علامك بالأسمرانية" و"بتغني لمين ولمين" ، والخبيتي " لا لا يا الخيزرانة" و"يا ولد يا حربي". ومحتوى بعضها يدل على منشئها كأن يعرف بأن "لا لا يا الخيزرانة" كتبها ولحنها الشاعر السعودي حسن صيرفي (1918-2008) أبو الأغنية الحجازية الشعبية، وأعطاها للمغني عبدالعزيز شحاتة (ت. 2010) منتصف الخمسينيات، ولم تشتهر إلا عبر صوت طلال مداح وعمر كدرس ثم ابتسام لطفي وفرق السمسمية في جدة وينبع. بينما نجد أغنية "يا ولد يا حربي" تصرح بالفرد من قبيلة حرب وشدا بها أحد أبنائها عابد البلادي، وفي الضفة الأخرى نجد أغنية "بتغني لمين ولمين" التي أداها مرسي بركة توحي بأنها من أغاني الزيارة لضريح الشيخ إبراهيم الدسوقي، ومن الأمور الملاحظة تبدل الإيقاعات على ذات الموازين، فنسخة مداح على الخبيتي بينما نسخة لطفي على الشرقين ونسخة محمد رشدي التي أعدها بليغ حمدي على المقسوم، و"الأسمرانية" تحولت من الشرقين إلى السواحلي في نسخة ليلى عبدالعزيز! ويعرض البحث إلى نماذج عدة، ومنها أغنية "لا لا يا الخيزرانة" (1969) سجلت بصوت المغنية السعودية ابتسام لطفي وتوزيع فوزي محسون، و"لا لا يا الخيزرانة" (1970) سجلت بصوت محمد رشدي وأعدها بليغ حمدي، وأغنية "الأسمرانية" المسجلة بصوت مغنين عدة في ساحل البحر الأحمر الغربي، وأعادت أداءها وتوزيعها المغنية الكويتية ليلى عبدالعزيز. ومن النماذج ما عرضه لأغنية "بتغني لمين ولمين" المسجلة بصوت مرسي بركة، وقد أعدها الملحن عمار الشريعي بصوت الممثلة فردوس عبدالحميد في مسلسل "ليلة القبض على فاطمة" (1985) ثم سجلت بكلمات جديدة وتوزيع مودي الإمام بصوت عمرو دياب في نفس العام. ويؤكد الباحث أحمد واصل أن توظيف "المشترك الثقافي" تعدى إعادة توليف أو توزيع أغاني تعد من التراث الثقافي إلى تفكيك وإدماج عناصر منها في أغنيات ذات ألوان وأشكال مختلفة، وإنما تبقى تلك العناصر شاهدة على ذلك "المشترك الثقافي" الذي يربط الجغرافيا وأهلها ببعضهم بعضاً. يمكن التمثيل بصورة أوسع إلى استثمار هذا "المشترك الثقافي" عند نموذجين من الملحنين المصريين، ويمثلهما بليغ حمدي (1932-1993)، والملحن صلاح الشرنوبي. فحمدي استفاد من إيقاع المجرور، ذي الأصل الطائفي، من أغنية "عشقته" (1967) لفوزي محسون في مقدمة أغنية "حكم علينا الهوى" (1973) لأم كلثوم، واستفاد من الفكرة اللحنية لأغنية "على شانه" (1964) لهيام يونس، وأداها لاحقاً طلال مداح، للفنان اليمني محمود علي السلامي واستوحى منها الجملة الأساسية في أغنية "يانا يانا" (1969) لصباح. وقد استثمر إيقاع الشرقين الذي يوازيه إيقاع الملفوف، وإنما سمعه في أغنيات طلال مداح منذ "وردك يا زارع الورد" (1958) و"عطني المحبة" (1968)، في أغنيات وردة "وماله" (1975)، "ولاد الحلال" (1975)، واتخذه حلمي بكر في أغنية "يا خبر" (1984) لوردة، ووظف – وأقصد حمدي- إيقاع فن الصوت في المقطع الرابع والأخير من أغنية "بودعك" (1991) لوردة. ويضيف "استوعب الملحن صلاح الشرنوبي، هذا الدرس البليغي، فاتجه في تجربته مع وردة في العقد الأخير من القرن العشرين منوعاً على التراث الثقافي المعنوي للإيقاع في العالم العربي، من المقسوم المصري والبطايحي المغربي والراي الجزائري، ومن بين ما وظف من إيقاعات عربية متعددة مع وردة وترسمها مع سواها إيقاع الخبيتي في "بنخاف م العين" (1992) وإيقاع الرومبا الخليجي في "احنا اللي اللوم علينا" (1993) لوردة، و"قاصد تسهرني" (1993) لميادة الحناوي، و"لا تلوم عليا" (1999) لسميرة سعيد. لعله كان أيسر للدماء المشتركة من قريب، أن يستثمر بليغ حمدي وطلال مداح في أغانيهما تلك الفنون بما فيها من أداء وقول وحركة، لكأنها تحقق ما شعر به، في مطلع القرن العشرين رئيس قلم إدارة الحج محمد حسني العامري من تلك "المعرفة القديمة" و"الانجذاب الغريب" في كتاب دونه وظل منسياً "نزهة الألباب في تاريخ مصر وشعراء العصر ومراسلات الأحباب" (1897). إلى أهله العرب سواء جاءوا من سواحل الأحساء وعمان والكويت وقفار نجد أو سواحل البحر الأحمر. وتمنحنا العناصر المكونة للفنون، الأداء والقول والحركة، تلك الفرص في مخاطبة إنسان المنطقة وتلقي تفاعله، مع هذ االنتاج الثقافي، بوصفه جزءاً من ذاكرته ومستعداً لاستعادته بصور جديدة، لا تتحنط في التكرار ولا تتطرف في التجريب. إن الفنون ذاكرة الإنسان وعلامة على الوجود والفناء معاً. محمد الحمامصي

مشاركة :