فاجأ البرلمان المصري أمس المجتمع المدني بتمرير مشروع قانون «تنظيم الجمعيات الأهلية» الذي قدمه «ائتلاف دعم مصر» المحسوب على أجهزة رسمية، متجاهلاً مشروعاً آخر قدمته الحكومة بعد مشاورات مع منظمات غير حكومية. وركزت كلمات النواب على ضرورة منع التمويل الأجنبي للمؤسسات الأهلية، بدعوى «حماية الأمن القومي». ولوّحت منظمات حقوقية بالطعن بعدم دستورية مواد في القانون الجديد. ولم يستجب البرلمان لطلب الحكومة منح وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي فرصة للتعقيب على مشروع «ائتلاف دعم مصر». وأقر المشروع أمس، بعدما كان وافق عليه مبدئياً في جلسة استمرت حتى مساء أول من أمس. وبدا لافتاً أن ائتلاف الغالبية وضع نصب عينيه خلال المناقشات هدف تقويض التمويل الخارجي للمنظمات الأهلية، ما يتوقع أن يثير انتقادات دولية واسعة ويوقف عمل جمعيات عدة. وكانت الحكومة أقرت منتصف الشهر الماضي مشروع قانون ينظم عمل الجمعيات الأهلية في مصر، وقررت إرساله إلى البرلمان لتمريره. لكن مجلس النواب تجاهل مشروع القانون الذي كان أثار خلافات بين الحكومة وممثلي المجتمع المدني. وقدم عدد من أعضاء ائتلاف الغالبية مشروعاً آخر، سارعت لجنتا التضامن الاجتماعي وحقوق الإنسان إلى الموافقة عليه الأسبوع الماضي. وصوّت النواب أمس على مواد المشروع، ورفضوا مطالبة وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية مجدي العجاتي لهم بالانتظار، إلى حين حضور وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي النقاشات لإبداء تعقيبها على مواد مشروع القانون. وكانت جلسة أول من أمس شهدت سجالاً بين البرلمان والحكومة في شأن مشروع القانون. وقال العجاتي إن «الحكومة حريصة على تفعيل نصوص الدستور وأعدت مشروعاً جديداً، ولن أدخل فى جدال أولوية تقديم مشروع الحكومة على مشروع النواب، خصوصاً أن المشروعين تم إعدادهما في شكل جيد... لا مانع من أخذ مشروع النواب، لكن أعطونا فرصة لإبداء الملاحظات والبحث في الأسلوب الأمثل، لأن وزيرة التضامن الاجتماعي اتصلت بي وقالت إنها لا تعرف شيئاً عن مشروع النواب، وبالتالي نريد فرصة لدراسته». غير أن رئيس البرلمان علي عبدالعال تمسك بالمادة الرقم 101 من الدستور التي أعطت البرلمان سلطة التشريع، فرد العجاتي: «لا نمانع في ذلك ولكن نريد الوقت». وأشاد بأن «المجلس اقتحم المناطق التي ظلت شائكة لمدة طويلة، بعد صدور أكثر من مسودة لهذا القانون وسط ضغوط داخلية وخارجية تحول دون إصداره»، قائلاً: «هناك جمعيات شريفة والقائمون عليها شرفاء، وهناك استثناءات لكن في حدود ضيقة». وأصر رئيس لجنة التضامن الاجتماعي عبدالهادي القصبي على تمرير مشروع النواب وعدم انتظار الحكومة. وقال إنه سلم رسالة إلى عبدالعال «من ممثلي جمعيات ومؤسسات أهلية يرفضون أن يكونوا ستاراً لتمويل مشبوه يكون سلاحاً موجهاً ضد مصر». واتفق معه النائب مصطفى بكري الذي قال إن جهات خارجية «أنفقت ما يقرب من بليون و200 مليون جنيه لإثارة الفوضى في البلاد». واعتبر رئيس الهيئة البرلمانية لحزب «الوفد» النائب بهاء أبوشقة أن «هناك حاجة ملحة تتصل بالأمن القومي لقانون جديد لعمل هذه الجمعيات، والمشروع المقدم إلى المجلس صالح ويقدم أسس تنظيم تتواءم مع الدستور وتحقق الأمن القومي»، فيما شددت رئيسة لجنة السياحة في البرلمان سحر طلعت مصطفى على «أهمية قانون الجمعيات الأهلية الجديد لأنه لا بد من رقابة صارمة على أموال الجمعيات والأموال التي تحوّل من الخارج». في المقابل، تحفظ عضو «تحالف 25/30» النيابي المعارض هيثم الحريري عن القانون الجديد قبل إقراره. واعتبر أن «لا خلاف على أن هناك جمعيات سيئة السمعة ولها نشاطاً غير مرغوب فيه، لكن الخوف من أن يكون القانون محاولة لتدخل الجهة الإدارية في عمل الجمعيات». فرد رئيس البرلمان قائلاً: «لا بد من اتخاذ الإجراءات لحماية الأمن القومي... هذه الجمعيات هي وسيلة بعض الدول في حرب الجيل الرابع لنشر الفوضى والتخريب». ولوحت منظمات حقوقية بالطعن بعدم دستورية مواد في القانون الجديد. وأعلنت ستة أحزاب و22 منظمة حقوقية رفضها القانون الجديد، واصفة إياه بأنه «مذبحة مؤكدة للجمعيات الأهلية». ورأت أنه «يقضي فعلياً على المجتمع المدني ويحيل أمر إدارته على الحكومة والأجهزة الأمنية». كما دانت في بيان مشترك أصدرته أمس قبل تمرير القانون «تعامل البرلمان مع المجتمع المدني باعتباره عدواً تُحاك الخطط والقوانين السرية للقضاء عليه». ورجح البيان تشابه القانون الجديد «إلى حد كبير مع المشروع الذي سبق وطرحته الحكومة ورفضته المنظمات الحقوقية، ونُشر في المواقع الإخبارية قبل شهرين، إلا أن قانون نواب الشعب أشد قمعاً وعداء للجمعيات الأهلية ولفكرة التطوع والمبادرات الجماعية». وحذر من أن إقرار القانون «سيكون السبب في مذبحة مؤكدة للجمعيات الأهلية العاملة في مجال التنمية والخدمات الاجتماعية المشهرة بالفعل». ولفت إلى أن القانون الجديد يفرض على الجمعيات توفيق أوضاعها وفقاً لنصوصه التي «تتضمن شروطاً فضفاضة للتسجيل منها عدم ممارسة نشاط يتعارض مع الأمن القومي والنظام العام، بل ويفترض أن تبت الجهة المختصة (التي لم تحدد بعد) في ما إذا كان نشاط الجمعية يتوافق وحاجات المجتمع وخطط الدولة في التنمية من عدمه، وهو الشرط الذي يمثل عودة صريحة إلى قانون الجمعيات السابق للعام 1964 والمعروف بقانون تأميم العمل الأهلي». وأضاف البيان أن «القانون اعتبر أن عدم رد الجهاز على الطلبات المقدمة له خلال 60 يوماً يعد بمثابة رفض للطلب، ضارباً عرض الحائط بمبادئ الدستور والمواثيق الدولية التي صادقت عليها مصر». وخلص إلى أن «القانون يأتي في إطار حملة منظمة لمحاربة العمل الأهلي بكل السبل الممكنة، بما في ذلك إعطاء الحكومة حق الاعتراض على كل قرارات الجمعيات، وترشيحات عضوية مجلس الإدارة ودورية اجتماعاته». ووقعت على البيان أحزاب «المصري الديموقراطي الاجتماعي»، و «التحالف الشعبي الاشتراكي»، و «الدستور»، و «مصر الحرية»، و «العيش والحرية» (تحت التأسيس)، و «التيار الشعبي» (تحت التأسيس)، إضافة إلى عدد من المنظمات الحقوقية أبرزها «مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان»، و «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان»، و «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية». ويلزم القانون الجديد «جميع الكيانات التي تمارس العمل الأهلي بتعديل نظمها وتوفيق أوضاعها وفقاً لأحكامه خلال ستة شهور من تاريخ العمل به، وإلا قُضي بحلها»، كما ألزم وزارة التضامن بـ «حصر الكيانات التي لا توفّق أوضاعها وفقاً لأحكامه». لكن لم تتضح هذه الأحكام بعد، إذ فرض البرلمان طوقاً من السرية على المشروع قبل إقراره. وقال لـ «الحياة» رئيس «المنظمة المصرية لحقوق الإنسان» حافظ أبوسعدة إن القانون الجديد «لم يعرض علينا ولم نطلع على مواده... شاركنا في مناقشة مشروع القانون الذي أقرته الحكومة، وهناك علامات استفهام كبيرة حول أسباب الإسراع باستغلال الغالبية النيابية لتمرير هذا القانون المثير للريبة». وأضاف: «سندرس الإجراءات التي سنتخذها، لاسيما أن هناك حديثاً عن عدم اتفاق القانون الجديد مع مواد الدستور التي تنظم عمل الجمعيات غير الرسمية، وهناك اعتراضات على مخالفته للقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان الدولية». ورأى أن «هذا القانون محبط ولا يعطي أي دلالة على انفراجة في أوضاع منظمات المجتمع المدني، بل على العكس سيؤدي إلى مزيد من الضغوط على تلك المنظمات... هذا القانون بمثابة إعلان وفاة للمجتمع المدني». ورأى نائب رئيس «المجلس القومي لحقوق الإنسان» التابع للدولة عبدالغفار شكر أن «ما جرى في البرلمان يثير الشبهات والشكوك، لأن وزارة التضامن وضعت مشروع قانون شاركت في مناقشته المنظمات الأهلية وجرت تعديلات كبيرة على مواد مسودته الأولى، وإن كانت هناك مواد تحفظنا عنها، لكن كان هناك نقاش». وأضاف لـ «الحياة»: «عندما يأتي مشروع قانون آخر ويتم تمريره على عجل، فهذا يثير الشبهة حول الهدف من ورائه... ما جرى يهدف إلى إحكام السيطرة على الجمعيات الأهلية. القانون الجديد أسوأ من المشروع الحكومي في نسخته الأولى وقبل تعديله».
مشاركة :